31/10/2010 - 11:02

عاشق فلسطين.. الحكيم جورج حبش../ أبو علي حسن*

-

عاشق فلسطين.. الحكيم جورج حبش../ أبو علي حسن*
قبل أربعين يوماً.. كنا في وداع عاشق فلسطين، كل فلسطين، رحل الحكيم وظلت روحه معلقة بحبه الأول.. رحل ولم تمنعه سنواته الثمانون من أن يبقى مراهقاً، ومتيماً في هواها، وراكضاً وراءها صباح مساء، باحثاً عنها في الصحف وشاشات الأخبار، مستمعاً لأحوالها من أفواه العاشقين مثله رجالاً ونساءً، سائلاً عنها ليل نهار دون ملل أو نسيان، ناصحاً رفاقه: «إياكم بأن تسلموا بضياع فلسطين المعشوقة»، وموصياً أبناء وطنه وعروبته بأن يبحثوا عنها في كل الزوايا والدروب، بخيولهم وسيوفهم ولا يسقطوها من وعيهم.. مطالباً بأن يطاردوا مغتصبيها حتى استعادتها إلى أحضان أهلها وقريتها العربية.

رحل الحكيم ـ جورج حبش ـ وهو يبحث عن وطن ضائع، وما أجمل الوطن عنده.. واسم وطنه ولا كل الأسماء، طوبى لغسان كنفاني، طوبى لفنان عاشق مثله جعل من كلمة فلسطين لوحة شعرية حية تنبض بالحياة، نقش وزخْرَف الاسم فصارت على الأوراق وفي القلوب، وأضحت أيقونة في صدر كل بيت تنبض حيوية، وتنطق شعراً، وتشع نوراً، وتُسمع آذان مساجدها ، وتصدح أجراس العودة من كنائسها، وربيعها يفرش على مروجها شقائق النعمان، وينثر على سهولها عطر الياسمين.. آه يا حكيم ومن لا يعشق هذا الجمال الذي جسده غسان كنفاني بريشته ورقة قلبه، هذا الجمال الذي أخذ القلوب وسلب المهج، لقد رأيتك مراراً تبكي فلسطين أمام كل من حدثك عنها.. آه ما أصعب الرجال العظام وهم يبكون، وما أصدق العشاق حينما يبكون.
رحل القائد الاستراتيجي، الزاهد في «التكتيك والبراغماتية» البعيد عن «البروباغندا» والهارب من السياسة اللفظية والإعلامية، وفلاشات التصوير، لم تخدعه الحياة بزخرفتها وزيف بريقها، وهو القائد صاحب (الكاريزما) القوية والشخصية القادرة بالمظهر والأداء والقدرات، كي يكون عنوان الحدث وفي صدر الصورة، لكنه كان ممتلئاً بذاته كقائد وطني استراتيجي، مؤمناً بممارسة القيادة السياسية من المواقع الوطنية، والقومية، والأخلاقية، ولم تكن لديه (أنا) متورمة باحثة عن غرائزها وأهوائها.. بقدر ما كانت الأنا عنده قوة إرادة، وموقف عز في الحياة، وصدق كلمة، وذات حرة أبيّة.

رحل الحكيم، بهدوء الحكماء والعقلاء كما في حياته، تاركاً وراءه سمعة وطنية وقومية، وكفاحية، وأخلاقية، قلـّما يختلف عليها أحد من رفاقه، وأصدقائه وخصومه، فودعه شعبه في الوطن والشتات بما يستحق من التكريم والتبجيل، والاعتراف بدور الرجل ومناقبه وسجاياه.
رحل الرجل، وهو يملك من الحلم والحماس والآراء كما لو أنه لا زال في العشرينيات من عمره.. لقد أجهده المرض جسداً، ولكنه لم يجهده وعياً وعقلاً وذاكرةً وحماسة، فقد ظل يتحلى بروح القائد المؤتمن على قضية شعبه، والمتحمل للمسؤولية الوطنية حتى آخر لحظات حياته، فلم يستطع اليأس أن يغافله ويدخل خلسة إلى وعيه ولو للحظة واحدة، فلا سنوات عمره الثمانين قد هيأت المجال لفتور عزيمته، ولا شعوره بالمرض قد كسر عنفوانه وإرادته، ولا الحالة الفلسطينية المريضة قد جعلته ييأس من السؤال والمتابعة وإبداء الرأي والنصيحة.. لقد كان يمتلك من الإرادة ما يقهر كل أسباب العجز واليأس والانطواء في ضوء الحالة الفلسطينية والعربية التي تلفنا بسوادها وحبالها.
رحل الرجل، وهو في غاية التأثر والاستياء من حالة الانقسام الفلسطينية التي لم تشهدها الساحة الفلسطينية من قبل، وفي ظل ظروف سياسية وعربية غاية في التعقيد، ومسرح الأحداث العربية يعود بنا إلى القهقرى. كان دائم السؤال في الفترة الأخيرة ومتابعاً لأدق التفاصيل، محاولاً أن يرى بقعة ضوء ولو من بعيد في الزمن العربي القادم. ولا عجب في ذلك، حتى غرفة الإنعاش، وكمامة الأكسجين، وأوامر الأطباء.. لم تمنعه في اللحظات الأخيرة من أن يسأل عن أوضاع غزة، وحين يجيبه أحد الرفاق بأن الحدود الفلسطينية المصرية / معبر رفح اقتحمها الفلسطينيون الثائرون، تنفرج أساريره ويتدفق تفاؤله قائلاً: «سيأتي يوماً تقتحم فيه كل الحدود العربية ـ العربية».
لقد ظل جورج حبش متمسكاً بمواقفه الوطنية والقومية، ولم يتبدل، ولم يتغير، ولم يلـّبس الأمر عليه تحت خداع بعض الصور والسيناريوهات أو الوعود، فقد كان واضحاً وشفافاً في مواقفه السياسية، متشبثاً بعناد بكل الأهداف والثوابت الوطنية والقومية التي آمن بها، وعمل من أجلها، ولم يقبل الواقعية كمفهوم يغطي به مسارات السقوط والتنازل وضرب الحقوق.. بيد أنه فهم الواقعية على نحو ٍ ثوري، يعي تماماً وعورة طريقها ودهاليزها كطريق يجتاز بها صعوبات المرحلة، واتقاء المخاطر.. وقد قالها مبكراً في أول منعطفات الثورة الفلسطينية السياسة «ليس للتكتيك أن ينتهك الإستراتيجيا» مستشرفاً خطورة استعمال واستثمار «الواقعية»، والتكتيك كسياسة تنازلية تنزل بالمنحى الثوري إلى مواقع الفشل والانكسار. لم يقبل على نفسه يوماً أن يكون إصلاحياً، أو أن تتحول الثورة الفلسطينية إلى جملة مطالب اقتصادية، أو معيشية أو سياسية اجتماعية، إنما أراد أن يبقى ثورياً، وحالماً، وأراد للثورة أن تبقى أداة تحرير وصراع لا يتوقف إلا عند استئصال السرطان الصهيوني من فلسطين.
كان يدرك مبكراً حجم المخاطر والمؤامرات التي يمكن أن تتعرض لها القضية الفلسطينية، وكان يدرك خطورة المس بالحقوق الوطنية والثابتة والشرعية والعادلة للشعب الفلسطيني منذ مطلع وبدايات الثورة الفلسطينية، الأمر الذي حفزه دائماً على إطلاق التحذير، وصيحات الغضب، والنصح بعدم التقاطع مع المسارات السياسية الإقليمية والدولية لمعالجة الصراع العربي الإسرائيلي كما لو أنه صراع حدود.. مدركاً أن هذه المحاولات والمسارات في جوهرها ليس إلا فعلاً وممارسة لإفراغ الثورة الفلسطينية من محتواها الوطني، وإفراغ م.ت.ف من محتواها التحرري، وتقزيم الحقوق الوطنية الفلسطينية، وتجزئتها على درب التهامها كاملة.. هكذا كان يفكر الحكيم.. وقالها: «لن يقبلوا كل تنازلاتنا حتى لو خلعنا كل ملابسنا».
كان متيقناً من أن انحرافاً سياسياً يتأصل في الساحة الفلسطينية يسري في الثورة الفلسطينية على المستوى القيادي ببطء وتدرج، سيترك بصماته في كل مرحلة.. وبدا عند البعض أنه حالم، ثوري، أو مبشر، والبعض اتهمه بالعدمية..!! بيد أن الواقع الفلسطيني اليوم وتضاريسه السياسية، والجغرافية، والاجتماعية تشي بقدْر ٍ عال من الوضوح على صحة رؤية الرجل، وصحة ما حذر منه على مدار عقود من الزمن.. وها نحن اليوم وبعد أن دخلت الثورة الفلسطينية مربع التسوية وخط المساومات، أمام حصاد فيه جبلٌ من الأوهام.. سلطة فلسطينية وهمية طفيلية لا زالت تحت الاحتلال لم يعرف التاريخ السياسي شبيهاً لها.. وقبل أن يغادر الرجل دنياه رأى وشاهد كيف تشظت هذه السلطة على نفسها مخلفة وراءها شظايا حقوق الشعب الفلسطيني مبعثرة لا يجمعها جامع، ودخان كثيف يغطي مساحة الرؤية الواضحة التي كان الحكيم يرى من خلالها طريق الخلاص.

كان الحكيم وحدوياً، منادياً بالوحدة، وتقوية المؤسسات الوطنية، وبناء م.ت.ف بناءً مؤسساتياً على أسس سياسية، وديمقراطية سليمة، محارباً الفردية والاستئثار في اتخاذ القرارات وتعريض الثورة لنزعات ورغبات وانحرافات البعض.. لكنه في الوقت ذاته كان يعي أن سلاح الوحدة ذو حدين في بعض المنعطفات، فالبعض استخدم الوحدة غطاءً لمواقف وسياسات، وتوجهات، مما دفع الحكيم إلى استخدام الصوت العالي والقاسي أحياناً سلاحاً إلى الحد الذي يبدو أنه يهدد الوحدة الوطنية.. لكنه لا يلبث أن يجعل من الوحدة الوطنية درعاً واقياً في مواجهة الخطر الأساس، وفي مواجهة استهداف كيان المنظمة كإطار ومحتوى. ولم يفقد البوصلة في موضوع معالجة التناقضات الداخلية، مدركاً متى يجب الإسراع في إقامتها وتقويتها حتى ولو على حساب قناعاته وخطه السياسي.. ومتى يكون الخط السياسي والقرار الوطني أهم من الوحدة الشكلية،أو الوحدة التي تستخدم لتمرير بعض السياسات والإملاءات.

كان يرفض منطق الاقتتال الداخلي حتى ولو توفرت كل مسبباته، وآمن بالحوار الديمقراطي سبيلاً لحل الخلافات الداخلية في الساحة الفلسطينية، ويرفض الاحتكام إلى السلاح في حسم الخلافات على مستوى الثورة، أو الفصيل الواحد، وكان يؤمن بالطلاق الديمقراطي في حال استفحلت الأمور.. وهكذا تعامل مع كل انشقاقات الجبهة الشعبية.. ومن سخريات القدر أن يعيش الحكيم إلى اليوم الذي يرى فيه ويشاهد قبل رحيله كيف تتهاوى الوحدة الوطنية الفلسطينية على وقع نزف الدم الفلسطيني ووقع الرصاص الفلسطيني، وكيف يتجسد الانقسام الفلسطيني في أبشع صوره على المستوى السياسي، والجغرافي، والاجتماعي، والثقافي.
إن من يعشق وطن.. لا يمكن أن يستسهل قتل أبنائه..؟! وأنت يا حكيم العاشق دوماً.. لم يهن عليك يوماً رؤية الدم الفلسطيني يُراق على يد طلاب السلطة الوهمية.



* عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

التعليقات