31/10/2010 - 11:02

عام يرحل مخلفاً وراءه تركة ثقيلة../ جميل مطر*

عام يرحل مخلفاً وراءه تركة ثقيلة../ جميل مطر*
لم يكن العام 2008 بالضرورة أسوأ ما مر على البشرية في العقود الأخيرة، ومع ذلك نجح في أن ينحت لنفسه مكانة بارزة بين سنوات عصره. كان العام الذي استطاع أن يحشد أكبر عدد من تداعيات الأعوام والتطورات الأسبق استعداداً لأعوام قادمة ستشهد في الغالب تحولات جذرية. ولم يقتصر الحشد على تداعيات بعينها، جغرافية أو أيديولوجية أو اقتصادية، بل اتسعت أبعادها وآفاقها لتشمل مجالات الحياة كافة على الكوكب.

تصدّر التداعيات عدد من أبرز سلبيات العولمة وأهمها على الإطلاق، الفجوة الشاسعة المتزايدة الاتساع بين الأغنياء والفقراء فاستحقت المرحلة بجدارة الوصف الذي حصل على إجماع أو ما يقترب من إجماع المفكرين في الغرب، ألا وهو «عصر الجشع». ففي عصر الجشع وبفضله تسارعت معدلات التراجع الاقتصادي وتسابقت سلوكيات التوحش والمقامرة والفساد وصولاً إلى الأزمة المالية الراهنة. ولم يعد من قبيل المزايدة أو رفض الجديد أو الحرص على هوية واستقلال وخصوصية إلقاء اللوم على العولمة.

لقد كانت العولمة عاملاً مباشراً وحافزاً لتتحول أزمة عقارات محلية في دولة واحدة إلى كارثة اكتسحت اقتصادات دول العالم كافة في أسابيع معدودة. كان يمكن أن تفلت منها الصين لو لم تتعولم. وانهارت ثقة ملايين البشر في الهياكل والمؤسسات الاقتصادية في دول أخرى اندمجت إجباراً أو اختياراً في نظام اقتصادي سعت الولايات المتحدة إلى فرضه على العالم ونجح سعيها، أو بدا أنه نجح بامتياز عندما سقط النظام الاقتصادي الآخر في أعقاب هدم حائط برلين وانفراط المعسكر الشيوعي واعلان الانتصار «النهائي والأبدي» لليبرالية الاقتصادية والسياسية الغربية.

لم يكن مقدراً، على الأقل لدى المدارس الليبرالية الأوروبية، أن تسقط الرأسمالية بصيغتها الأميركية في فخ الليبرالية المتطرفة التي وضع الأساس لها شتراوس وفريدمان ومدرستهما، وهي المدرسة التي هيمنت بالفعل على الاقتصاد الأميركي وسياسات التجارة الدولية على امتداد ثلاثة عقود أو أكثر.

وفي الوقت نفسه لم يكن مقدراً أن تنهض وبهذه السرعة، في ظروف الأزمة المالية الأخيرة، رأسـمالية الدولـة تحت عنـوان «رأسـمالية غير ليبرالية» وتجد فيها الرأسماليات الغربية الملاذ وسبيلا للخلاص من الأزمة التي تسببت بها الليبرالية المتطرفة. لذلك أعتقد أن كثيرين في المستقبل قد يعتبرون العام 2008 علامة فارقة عند الحديث عن تطورات ثاني كساد عظيم يصيب العالم خلال قرن.

أتفق مع القائلين إنه ليس صائبا تماماً الحكم بأن الاشتراكية استعادت مكانتها أو شعبيتها التي تمتعت بهما على امتداد عشرات السنين، إنما قد يكون أكثر صواباً القول إن الرأسمالية كانت بحاجة إلى إصلاح جذري والى «طاقم» من الكوابح في أعقاب سقوط الشيوعية. يومها كان يجب على الاقتصاديين في الغرب توجيه النصح للطبقات الحاكمة بأن سقوط النظرية المضادة يجب أن يكون حافزاً على تطوير رأسمالية أقل وحشية وجشعاً وأكثر عدالة وإنسانية.

جاءت النصيحة في العام 2008، أي جاءت متأخرة حوالي ثلاثين عاما. جاءت بعد أن اكتشف قادة مسيرة الوحدة الأوروبية أنهم ليسوا أهلاً بعد للوحدة، فقد اختلفوا على سبل مواجهة الأزمة المالية، وقاموا فرادى أو جماعات بتوجيه اللوم للولايات المتحدة بدلاً من أن يلوموا أنفسهم على خضوعهم المطلق لسياسات اقتصادية أميركية كثيراً ما أنذرت بخراب عالمي وشيك. أو هكذا يقولون الآن.

وفي أقاليم أخرى من العالم انفجرت فقاعات مالية وعقارية ظهرت بتأثير موجات العولمة وبدعم سياسي وعسكري واقتصادي من قوى لها مصالح شتى وأحيانا متنافرة. وفي دول كثيرة انتشرت احتجاجات وتنوعت بتنوع مصادر الظلم وأنواعه والفجوات وأحجامها. فكان بينها تظاهرات عمالية في الصين وطلابية في عدد من دول أوروبا وطائفية في كثير دول الشرق الأوسط وشبه جزيرة الهند.

وكان بينها عودة العنف في الولايات المتحدة ضد السود في أعقاب فوز أوباما، وتصاعدت الاشتباكات في المكسيك ومصر وبوليفيا والبرازيل والأرجنتين بين قوى الأمن الداخلي وحشود المتضررين من ضغوط التطرف في تنفيذ توجيهات اقتصاد السوق وفرضه ايديولوجية بعينها. كانت واضحة نية الكثير من الطبقات الحاكمة إلى جانب رفع قدرات الأمن الداخلي استعداداً لمرحلة توترات مقبلة بسبب التداعيات المتوقعة للأزمة المالية والتوترات المتصاعدة في العلاقات بين الدول، وبخاصة العلاقات التجارية والمالية.

نرى أيضاً تطورات زاحفة ببطء ولكن بمغزى مثير. نرى مثلا شركات متعدية الجنسية تستعد لشراء «دويلات» أو أراضٍ شاسعة في دول متضررة بشدة من أحوال السوق العالمية. المثير هو أن هذه الشركات تنتهز فرصة الكساد وسقوط اقتصادات أو انكشافها لتكرر بوعي أو من دون وعي تجربة شركة الهند الشرقية قبل أن تتولى حكومة لندن مسؤولية الاستعمار المباشر للهند.

وفي العام 2008 وصل أول إنسان أسمر إلى منصب الرئاسة أو القيادة في دولة «بيضاء». كان الحدث مهماً في حد ذاته إلا أن الأهم منه تاريخياً كان في ترافق هذا الوصول إلى البيت الأبيض مع توفر توافق نادر بين غالبية قطاعات الشعب الاميركي حول التغيير وضروراته.

لذلك أعتقد أن أهمية الحدث قد تتضاءل مع مرور الوقت إذا لم يحدث «التغيير التاريخي» الذي يحلم به ملايين الأميركيين وغيرهم في شتى أنحاء العالم. وفي ظني أن هذا التغيير، إن وقع أو على الاقل خطا خطوات أولى، فسيكون الضمانة الكبيرة لحماية العالم من كوارث كتلك التي تعرض لها في القرن الماضي في أعقاب سنوات الكساد العظيم.

وفي 2008 بلغت باكستان ذروة الاستعداد للغوص في أوحال مرحلة الفوضى الشاملة، وهي الفوضى التي تنبأ بقرب نشوبها عدد من المتابعين للشأن الآسيوي وكنت واحداً من هؤلاء. مازلت على كل حال مقتنعاً بأن باكستان كانت على امتداد السنوات الأخيرة مرشحة لتحتل مكاناً مرموقاً بين الدول التي يطلق عليها «الدول الفاشلة»، وبخاصة عندما وجدت المؤسسة العسكرية الأميركية نفسها عاجزة عن حل المسألة الأفغانية بالتدخل المباشر واكتشفت حقيقة أن المؤسسة العسكرية الباكستانية تقف عقبة في وجه التدخل غير المباشر من باكستان وغيرها.

يلفت النظر أن كثيرين صاروا مقتنعين بأن عزل الجنرال مشرف وإقامة حكومة جديدة كانا شرطين ضروريين لاستكمال إخضاع باكستان لخطط التدخل العسكري الأميركي في أقاليم باكستانية رفضت الحكومة العسكرية الباكستانية السماح للقوات الاميركية بالوصول إليها. ولم ينته العام 2008 إلا وكانت باكستان مطالبة بأن تسمح للهند أيضا بالتدخل العسكري في أقاليم باكستانية أو في القطاع الخاضع لباكستان من كشمير. هكذا وهنا في 2008 قد تكون بداية الانفراط الباكستاني.

وفي 2008 وقعت تطورات بالغ البعض في التقليل من أهميتها أو في تضخيمها. من هذه التطورات التدخل العسكري الروسي في جورجيا وقد قيل في وصفه إنه يمثل خطوة أساسية من خطوات انحسار «الإمبراطورية الأميركية». قيل أيضا عن التسلل الروسي في أقاليم الجوار القريب للولايات المتحدة، أي في الكاريبي وأميركا اللاتينية، إنه اختراق خطير لنظام الأحادية القطبية في النصف الغربي من العالم.

وجرى تحليل تفاقم ظاهرة القراصنة وتهديدها للتجارة الدولية وهيبة النظام الدولي ومؤسساته وما إذا كان هذا التصعيد في أعمال القرصنة في القرن الأفريقي والتخريب الواسع النطاق في دلتا النيجر في نيجيريا والدمار المتبادل في أقاليم السودان والكونغو باعتبارها جميعا بوادر مرحلة تحولات خطيرة في إفريقيا نتيجة اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء وعلامات مبكرة على سقوط نظام دولي وصعود آخر.

الاثنان، جورج بوش والعام 2008، يقفان على أهبة الرحيل تاركين وراءهما حزمة من المشاكل والأزمات يستعد لحملها اثنان آخران، باراك أوباما والعام 2009.
"الحياة"

التعليقات