31/10/2010 - 11:02

على الطريق... فلسطين تعطي بيروت عيداً ../ طلال سلمان

على الطريق... فلسطين تعطي بيروت عيداً ../ طلال سلمان
... وحين وصلت فلسطين موحدة الجرحين، الاحتلال وإنكار الهوية، تخففت بيروت من أثقال حزنها واضطرابها وقلقها على غدها عبر الترويج المنهجي والمدوَّل لأحاديث الاحتراب بين طوائفها والمذاهب، وارتدت أجمل وجوهها ثقافة وفتحت قلبها لاستقبال الكبيرين: محمود درويش وعزمي بشارة.

إنه شرف لبيروت أن تأتيها فلسطين فتتوحد فيها بشطريها الممزقين بحراب الاحتلال الإسرائيلي وجدار عنصريته، مقدمة أبهى صورة للمقاومة الحافظة لشرف الإنسان الذي يكون أول ما يكون بأرضه، وبتمسكه فيها، بكل زيتونة وشجرة برتقال ونخلة كالتي هزّتها مريم، لتكون له الهوية، وليكون على مستوى حقه الثابت فيها، أمس واليوم وغداً، مهما عظمت التضحيات.

لقد جاءنا الصفاء الوطني المطلق معززاً بالانتماء القومي الثابت، في لحظة نحن فيها بأمس الحاجة إلى التشبث بهويتنا الجامعة، حتى لا تكون فتنة في لبنان يستخدمها الاحتلال الإسرائيلي لشطب فلسطين من الذاكرة الدولية، ويوظفها الاحتلال الأميركي للعراق وسيلة لتقسيم أرض الرافدين حصصاً على العناصر والطوائف والمذاهب، بما يذهب بالوطن وشعبه.

إن فلسطين هي المعلم والقدوة والتعويذة القاهرة لليأس بالصمود، ولو وحدها، ليس لها من السلاح إلا دمها والإرادة وصدق الإيمان بأمتها، وإن مقهورة ومغلولة اليدين عن نجدتها.

وأن تجيء فلسطين إلى بيروت، اليوم، فهذه شهادة ممهورة بالدم بأن هذه المدينة المكلومة الفؤاد ما تزال عاصمة للثقافة العربية ودار لقاء للمناضلين بالسلاح الأخطر، الموقف، شعراً ونثراً ومحاضرة وسيرة شعب ترفعه أرضه كلما كاد يُسقطه اليأس، ويعصمه إيمانه من الاستسلام كلما عز النصير..

مع وصول عزمي بشارة ومحمود درويش إلى بيروت المقاومة التي أضافت إلى رصيد فلسطين بإنجازها تحرير الأرض اللبنانية وإجلاء الاحتلال الإسرائيلي، يكتمل عيد الثقافة، ممثلاً بالمعرض السنوي التاسع والأربعين للكتاب العربي، الذي ينظمه <<حارس الزمن الجميل>>، النادي الثقافي العربي، والذي جعله هذا العام تحية وفاء لمن استعاده فأعاد إلى بيروت بعض ملامح وجهها، الرئيس الشهيد رفيق الحريري.

ويحمل تاريخ هذا النادي العريق، كما العديد من مرافق لبنان ومقومات تقدمه، بصمات فلسطينية رافقت قيامه وحمت استمراره وعززت قدراته، وهي بعض البعض من المساهمات الفلسطينية في إغناء دور بيروت العربي، وتعزيزه بحيث باتت ولفترة طويلة الشارع الوطني العربي، والمنتدى الثقافي، والمطبعة والكتاب وديوان الشعر وصحيفة الصباح.

ها هي بيروت تستعيد بعض ألقها مزدهية بشعر محمود درويش الذي يكاد يكتمل ملحمة نضالية بآفاقها الفكرية التي لا يحدها حجر من التعصب أو الاحتقار أو الاستهانة بالعدو، وبالسيرة شبه الأسطورية لهذا المقاوم بالثقافة والوعي وصلابة الإيمان عزمي بشارة، وهو يقاتل على جبهات عدة ليحفظ لانتمائه الوطني سور حمايته القومي، ولينفي عن جهاد شعبه شبهة العنصرية أو الانغلاق والتطرف الديني، أليس حب الوطن من الإيمان؟!

ها هي بيروت تنفض عن قميصها أوساخ الثرثرة الممجوجة حول التوطين، والجدل المهين لتراثها النضالي ولانتمائها القومي حول <<الحقوق المدنية للفلسطينيين>>، وهو جدل يجعلها أقسى على أخوتها الذين ألجأتهم إليها ظروف الاحتلال الإسرائيلي (بكل ملابساته العربية) من المحتل نفسه، مما يسيء إلى أهلها (ودولتها) أكثر مما يسيء إليهم.

لقد عصم الوعي والمواجهة المباشرة للاحتلال في عينيه، فلسطين من آفات الطائفية والمذهبية، فالمقاومة تكون وطنية جامعة أو لا تستحق مثل هذه التسمية المشرفة، في حين أن الجدل حول <<المدى الزمني لصلاحية المقاومة>> يكاد يضيف إلى المتاهات اللبنانية متاهة جديدة أمرّ وأدهى، إذ تكاد تعيد الاعتبار إلى العدو فتبرئه من جرائمه كافة، وهي تستثمره اختراقاً لأجواء لبنان ومياهه وإرادته، إذ يحاول بها أن يصبح طرفاً داخلياً.

لقد انتصر عزمي بشارة على الاحتلال بوطنيته وعروبته، فهو لم يقاوم الاحتلال الإسرائيلي كفرد، بل كممثل لإرادة شعبه، بهويته المؤكدة.

وانتصر محمود درويش على عدوه الإسرائيلي بفضح عنصريته التي ترفض الاعتراف بالفلسطيني كصاحب حق شرعي في أرضه، وكذلك بصموده وتغلبه على موجات اليأس التي كثيراً ما طوقته فكانت أقسى عليه من حصار العدو، وكذلك في تصديه لإغراءات الاستسلام التي كادت تجرف العديد من القيادات التي تنكرت للمقاومة وجذبها فخ السلطة إلى التهلكة، أو كاد.

ها هي فلسطين معنا، فلتكن حفاوتنا بها لائقة بصمودها، وقد أعطانا ديواناً جديداً للشعر العربي بعدما تفوّق محمود درويش على نفسه، من خلال استيعابه المدهش لأبعاد الصراع الفذ بين قوة الحق الأصيل وحق القوة الوافدة، العادية والمستعدية.

ها هي فلسطين معنا، ممثلة بعزمي بشارة المقاوم النموذجي، النادر المثال، إذ هو يقاتل على جبهات عدة، داخل الذات وخارجها، قبل أن يصل إلى مقاومة التهجين والتدجين، مع الحرص على ألا يسقط التطرف <<الحقوق>> التي كان على المحتل أن يسمح له بها وهو يحاول تبرير احتلاله أو تمويهه لكي لا يراه العالم بواقعه البشع والمعادي للإنسان.

عزمي بشارة ومحمود درويش: أهلاً بكما معنا، وقد أعطى وجودكما بيروت نكهة العيد الذي غاب عنها منذ دهر.

(عن "السفير")

التعليقات