31/10/2010 - 11:02

على مسرح الجريمة../ عروة سويطات*

على مسرح الجريمة../ عروة سويطات*
سأل القاتل في رواية "الجريمة والعقاب" للكاتب الروسي دوستويفسكي، بعد مشاهدته القيادة السياسية وهي تقتل المواطنين الأبرياء باسم القانون، سأل نفسه "لما لا أفعل الأمر ذاته؟!". وأتساءل، بعد متابعتي لفصول رواية العنف المرعبة في مجتمعنا، لماذا لا يلتجأ مواطن موجود في دولة قامت على النكبة وترتكب أبشع الجرائم، وتستهتر بكافة الأعراف دون عقاب إلى الاستهتار في القوانين والأعراف المجتمعية؟!

يعتبر العنف عند الشعوب المضطهدة تمرّدًا على الواقعين السياسي والاجتماعي وإلغاء للقانون تحت المقولة: "لا أحد يحميني غير نفسي"، إذ يدفع الاضطهاد الاجتماعي والسياسي المجتمع المضطهَد إلى غرائز الحقد والعنف.

تمسّ ظاهرة العنف المتفشية شعور كل فرد من أفراد المجتمع حتى إن لم تقع عليه الجريمة مباشرة، فالجريمة في الأساس هي اعتداء على الأخلاق والعقد الاجتماعي الذي يبنى على أسسه التضامن والوحدة المجتمعية، علاوةً على انعكاساتها الخطيرة على توازن المصالح والقيم داخل المجتمع.

تتعلّق قضية العنف بكيفية إدراكنا للواقع، فالسؤال هنا هو رؤيتنا لهذا الواقع. هل أرى جاري تهديدًا؟ هل أرى ابن بلدي خطرًا علي وعدوًا لي؟. خصوصًا أن فقدان حيّز الأمان والشعور في خطر وغربة ووحدة يؤدّيان حتمًا إلى انعدام الثقة بالمؤسسات الرسمية والمجتمعية الأهلية والسياسية كذلك.

ثمّة أهمية خاصّة لمحاولة التماثل وفهم منابع وجذور العنف في المجتمع، محاولة وضع أنفسنا مكان المقترفين له ومحاولة فهم حالتهم والمعضلات الأخلاقية التي يواجهونها، لنتمكّن من منع العنف وردعه أخلاقيًا من خلال فهم عميق وجدّي للسؤال: ما الذي يدفع هذا الشخص العربي قتل أو طعن أو إلقاء قنبلة ناسفة على ابن بلده؟!

لا بدّ لنا، في هذا السياق، من طرح معادلة الحقوق والواجبات تجاه مجتمعنا من زاوية نظر خاصة، حيث أننا من جهة نملك الحق بمطالبة الشرطة والأجهزة الرسمية بأن تقوم بدورها في مواجهة ظاهرة العنف، وعلينا مطالبتها بذلك، وفي المقابل، علينا كأفراد وقوى سياسية وأهلية تأدية واجباتنا ودورنا والتزامنا للمجتمع بجديّة لمنع انتشار العنف على المستوى الاستراتيجي وبعيد المدى.

علينا أنّ ندرك جيّدًا، ضمن سجالنا حول العنف وتقييمنا لحجم الظاهرة، الفرق بين الجريمة المنظّمة وغير المنظّمة، بين جرائم العصابات المنظّمة بدرجات مختلفة، وبين الجرائم الفردية والاجتماعية "العفوية".

تعمل الشرطة، غالبًا، في مواجهة الجريمة المنظمة كشبكات الإجرام وفق أدواتها المتاحة لديها كالتحقيق والتجسّس والتنصّت والسجن، ولديها إنجازات وإخفاقات في هذا الإطار، لكنها لا تملك الأدوات المطلوبة لمواجهة الجريمة غير المنظمة العشوائية والعفوية ومنعها مسبقًا، فالشرطة لا تستطيع الدخول إلى بيت كلّ واحد فينا وعقله، ولهذا تأتي الحاجة المصيرية والحاسمة إلى العمل المجتمعي على المستوى القيمي والثقافي.

أعتقد أن قضية العنف تدور في أفق الوعي للألم، وهي أن تفهم أن الألم لحظة واحدة في الجسد والبقية في العقل. إنَّ هذا يحتاج إلى القدرة على استخدام قوة الخصم ضده، وهنا يكمن الفرق بين النضال على حقك وبين العنف.

نمت الثقافات الإنسانية بشكل لولبي، بدءًا من الآراء المسبقة ومن ثم القوة ثم الحقيقة الواحدة ثم الحداثة العقلانية والحقيقة العلمية، ثم ما بعد الحداثة وتعدّد الحقائق وثم الثقافة المركّبة التي تعدم الحقائق المطلقة.

تبرز في ثقافتنا العربية عوامل القوة والكرامة والحقيقة الواحدة والسلطة إلى حدّ البعض من الحداثة. من هنا الحاجة إلى بناء استراتيجيات مواجهة تنبثق أولا من قراءة دقيقة للواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ثم التعامل معها بحساسية ثقافية للثقافة العربية السائدة.

في ظل هذا الواقع، على الأنشطة التربوية والاجتماعية والسياسية أن تزعزع الفوارق الاجتماعية وتعيد ترتيب التعريفات حول من هو القوي؟ ومن هو الضعيف؟ وما هو الخير والشر؟ فالقوة هي السيطرة على الذات وضبط النفس والبلوغ العاطفي والوعي للألم، أمّا الضعف فهو العنف والانجرار وراء ردّ الفعل.

الأمر يحتاج إلى بديل قيَمي، الانتماء القومي والتطوع والمصلحة العامّة والتعدّدية والاحترام المتبادل والسلم المجتمعي واستثمار الطاقات الكامنة من خلال الأطر الشبابية والسياسية والمجتمعية التي تمنح معنى آخر للحياة.

يصعب تغيير العالم أو مجتمعنا، الآن وفي لحظة واحدة، لأن الأمر يتطلّب تغييرًا ثقافيًا بعيد المدى وخصوصًا أن خطط المواجهة تتفاعل في إطار عدم ثقة متبادلة بيننا وبين الشرطة والمؤسسات الرسمية. لكن يجب البدء في العمل من خلال ابتكار وإدارة مشاريع تربوية رادعة ومانعة لظاهرة العنف بالتعاون مع الأفراد وقوى مجتمعية وسياسية مختلفة.

كان لتمثال إله الحرب "كانيوس" في الإمبراطورية الرومانية وجهان، الأول يتجه نحو خارج حدود روما للعدو الأجنبي المتربّص لأبنائها، بينما يتجه وجهه الآخر نحو روما حيث يتربّص لأبنائها بالعنف والجريمة. أما مسرح الحرب الذي نعيشه لم يعد يقتصر على منطقة محدّدة من الأرض بل دخل إلى حاراتنا وساحاتنا وحتى بيوتنا، والمطلوب: أن نتحرّك الآن.

التعليقات