31/10/2010 - 11:02

على هامش الذكرى الخامسة "لغزوة منهاتن"/ د.يحيى اليحياوي*

على هامش الذكرى الخامسة
بحلول الذكرى الخامسة لضربتي واشنطن ونيويورك، يكون عدد ضحايا الضربتين قد تساوى وعدد الجنود الأمريكان القتلى في أعقاب إعلان الإدارة الأمريكية "الحرب العالمية الشاملة على الإرهاب".

والواقع أنه بعد ثلاث سنوات على غزو العراق واحتلاله، سقط من الجيش الأمريكي هناك ما يناهز ال 2700 جندي، وخسر الجيش إياه، بعد خمس سنوات على غزو أفغانستان واحتلاله لها، ما يقارب ال 330 جنديا ناهيك (بالبلدين معا) عن عشرات الآلاف من الجرحى والمعطوبين والمعوقين والمدمرين نفسيا و" غير القابلين لاستئناف الخدمة العسكرية"، وما سواهم.

وبصرف النظر عن مقياس عدد الضحايا المدنيين الذين سقطوا في أعقاب أكبر ضربة تعرضت لها الولايات المتحدة بعقر دارها (على الأقل منذ ضربة بيرل هاربر)، وبغض الطرف عن معيار عدد القتلى بساحة المعارك بأفغانستان كما بالعراق، فإن المثير حقا من حينه وإلى اليوم، إنما طبيعة وحجم الرد الذي استتبع الضربتين، وفسح في المجال واسعا لتحريك أدوات استراتيجية كانت قائمة ومعدة بالتأكيد، لكنها كانت تنتظر حدثا ما، من شأنه تسريع الضغط على الزناد.

ليس من الأهمية في شيء معاودة الحديث عن وفي مسببات أحداث الحادي عشر من شتنبر من العام 2001، ولا الجهة الحقيقية الثاوية خلفها أو المتواطئة معها أو المضمرة لعداء تاريخي مع أمريكا أو ما سوى ذلك، بقدر أهمية الوقوف عند تداعيات "حرب شاملة على الإرهاب" تحول الكون، كل الكون، بموجبها إلى فضاء لحرب مفتوحة استوظفت فيها ولا تزال، كل أشكال البطش والقوة... الخشن منها كما الناعم سواء بسواء.

وعلى الرغم من التعمد المقصود من لدن الإدارة الأمريكية لترك عبارة الإرهاب هلامية المضمون، عائمة المعنى، وإمعان الإدارة إياها في ترك حدود المصطلح مطاطية، قابلة للتأويل غير المحدود، غير خاضعة لمدى زمني منظور، فإن ثمة حقائق كبرى أفرزتها الحرب إياها طيلة الخمس سنوات الماضية، ولا تزال وطاتها فاعلة وضاغطة إلى غاية الأيام الراهنة:

* فإذا كان غزو أفغانستان وإسقاط نظام طالبان من بين ظهرانيها أمرا " مبررا ومستساغا"، كون البلاد كانت ملجأ زعماء القاعدة (متبنو الضربتين) وحكامها حماتهم بالسر والعلن، فإن المبررات والمسوغات التي دفع بها لغزو العراق واحتلاله لم تكن ذات صدقية تذكر، إذ بينت الوقائع بعد عام على الاحتلال أنه ليس ثمة أثر يذكر لأسلحة دمار شامل وبينت، على بعد أسبوعين فقط من الذكرى الخامسة، أنه لم يكن للرئيس العراقي صدام حسين علاقة تذكر مع تنظيم القاعدة، بل ذهبت التقارير لدرجة القول بأن الرئيس العراقي كان " يخشى القاعدة " جملة وتفصيلا، ويتحاشى التعامل معها أو التواصل مع أعضائها.

* ثم إذا كان من "المبرر والمستساغ " ملاحقة أعضاء القاعدة وترصد حل وترحال أتباعها والزج بهم بمعتقل غوانتنامو دونما تهم محددة أو لوائح متابعة مؤكدة، فإنه لم يكن من المبرر إطلاقا اعتقال رئيس شرعي أزيح من السلطة بفعل الغزو والاحتلال، وعملت الآلة الإعلامية الأمريكية على تشويهه (يوم إلقاء القبض عليه)، والأمر بمحاكمته على حوادث طاولها التقادم (وأفرغت فوق كل ذلك من سياقاتها التاريخية) دونما اعتبار للحصانة الدستورية التي يتمتع بها، ولا لمبدأ المحاكمة العادلة التي تستوجب ألا تتم المحاكمة إياها بإشراف من الاحتلال، ومن لدن غرماء سياسيين أو حمالي عداوة وثأر تاريخيين.

* وإذا بات من المؤكد اليوم، أن كل الدفوعات لغزو العراق واحتلاله قد طبعها التضليل وكانت مصطنعة بكل المقاييس، فإنها سرعان ما استبدلت ليس فقط بدفوعات " تخليص العراق من الديكتاتورية وإقامة الديموقراطية" من بين ظهرانيه، تكون أنموذجا للمنطقة برمتها، بل وأيضا بأطروحة مفادها أن الذهاب للعراق إنما كان دافعه الأساس "استدراج العناصر الإرهابية وتصفيتها بعيدا عن الأراضي الأمريكية"، وعدم التسليم لها بالانسحاب المبكر لأنها، تقول ذات الأطروحة، لن " تتوانى في ملاحقتنا واستهدافنا حتى ونحن مغادرون".

قد يكون في هذا الطرح بعضا من الوجاهة، على الأقل احتكاما إلى معطى انتقال تنظيم القاعدة لمحاربة الأمريكان بالعراق. وقد يكون فيه بعض من "المصداقية" أيضا بحكم انتقال أبي مصعب الزرقاوي للعراق وتصميمه على مقارعة الأمريكان، ومن أتى على ظهر دباباتهم أو لف لفيفهم أو تماهى معهم بهذا الشكل أو ذاك.

لكن الذي لا يقبل كبير مزايدة إنما واقع التدمير الذي لحق بالعراق، وظاهرة التقتيل الجماعي التي أضحى مكمنها، ومغبة التقسيم التي شارف عليها على الأساس العرقي والمذهبي والطائفي... ناهيك عن الإهانات التي طاولت أبناءه بالمدن المقاومة، كما بمعتقلات الاحتلال، كما بسجون الداخلية، كما على يد مليشيات يتعذر الوقوف عند عددها وعلى أجندة الجهات الثاوية خلفها أو المؤتمرة بأوامرها.

وعلى هذا الأساس، فإن ثلاث سنوات من "الحرب الشاملة على الإرهاب" بأفغانستان كما بالعراق، إنما أفرزت بالبلدين معا كل اشكال الفوضى والتسيب والتجاوز وأنهارا من الدم من المتعذر حقا معرفة مداها ولا حدودها ولا المستوى الذي ستقف عنده بالمحصلة.

لكنها أفرزت وبالآن ذاته (وبالبلدين معا) مقاومة شرسة عنيدة، من أطياف مختلفة، تحمل شعار طرد المحتل والمتواطئين معه، لم يستطع أحد (سيما بالعراق) التحايل عليها سياسيا أو استقطاب عناصرها أو اختراقها... فبقي محاصرا بالمنطقة الخضراء (وبحدود مدينة كابول بأفغانستان) فيما هي ترصد له المكائن بكل مكان يحل به أو يرتحل.

لو سلم المرء جدلا أن أفغانستان (والعراق فيما بعد) كانت المدخل الخشن الأساس في استراتيجية "الحرب الشاملة على الإرهاب"، فإن ذلك تلازم ومداخل أخرى مصاحبة لها هي إلى الروافد الناعمة اللينة أقرب منها إلى الاستهداف المادي المباشر:

* فالإدارة الأمريكية (وبجانبها الكونغرس) استباحت تصنيف تنظيمات سياسية وحركات مقاومة (كحماس والجهاد الإسلامي وحزب الله وغيرها) ضمن خانة "الحركات الإرهابية"، فعمدت إلى تجميد أرصدتها المالية ورصد حركة المنتمين إليها والمطالبة بحلها... حتى إذا نجحت إحداها (حماس بهذه الحالة) في انتخابات ديموقراطية مارست عليها الحصار والتضييق، وأوعزت لإسرائيل باختطاف وسجن وزرائها ونوابها...ناهيك عن دفع العالم، كل العالم، إلى تجميد شتى أشكال التعامل معها أو الاعتراف بها. بل وذهبت لحد تفويض إسرائيل بتدمير لبنان بالكامل إذا كان ذلك سيسهم في تدمير قوة حزب الله "الإرهابي".

* والإدارة الأمريكية لم تكتف فقط بإجبار معظم دول العالم (والدول العربية في المقدمة) بسن قوانين في الإرهاب زاجرة ومضيقة على الحريات الفردية والجماعية، بل ذهبت لحد دفعها إلى القبول بفتح معتقلات سرية (بالأردن كما بمصر كما بالمغرب كما بتونس كما بغيرها) لاستنطاق المشتبه بهم، ناهيك عن انتهاك حرمة الأجواء الوطنية للعديد من الدول (بما فيها الدول الديموقراطية) ذهابا إلى هذا المعتقل أو إيابا من ذاك.

* والإدارة الأمريكية لم تكتف بمحاصرة الأرصدة وتتبع مصادرها وخانات صرفها، ولا التضييق على مشاريع العمل الخيري ونظم التربية والتعليم (بجهة " تنقيتها" من التعصب والتطرف والكراهية)، بل رهنت مخابرات العالم لسياستها الأمنية وسمحت لأجهزتها الداخلية بحضور عمليات الاستنطاق حيثما برزت الحاجة لذلك... محولة كل مواطني العالم إلى متهمين لا شفاعة لديهم تذكر إن هم لم يستطيعوا إثبات براءتهم.

* والإدارة الأمريكية لم تقف عند درجة رفض الانصياع لقرارات المحكمة الأمريكية العليا عندما أفتت بلاقانونية معتقل غوانتنامو، بل ذهب الأمر بها لحد التنصت على المكالمات الهاتفية والرسائل الألكترونية للملايين من مواطنيها (ناهيك عن الأجانب) بدون إذن قضائي وبغفلة من رقابة الكونغرس القبلية... حتى إذا ما انفضح الأمر عن طريق وسائل الإعلام، انبرى الرئيس تهديدا ووعيدا للذين كانوا خلف تسريب المعلومات.

وعلى هذا الأساس، فإن حصيلة خمس سنوات من "الحرب الشاملة على الإرهاب" التي استتبعت ضربتي نيويورك وواشنطن، لم تفرزا أمنا للولايات المتحدة ولا أمانا لحلفائها، بقدر ما أفرزت واقعا جديدا استصدرت بموجبه السياسة والاقتصاد، الحرية والحركة، الديموقراطية وحقوق الإنسان لفائدة الأمن... وأعطت لأمريكا سبل تصريف فائض القوة والحقد الذي راكمته منذ أن نجحت في إبادة الهنود الحمر وتحويل ما تبقى منهم إلى عبيد.



**د. يحي اليحياوي- باحث وأكاديمي من المغرب

التعليقات