31/10/2010 - 11:02

عن أشد الإمبراطوريات بأسا وأقصرها عمرا/حمدان حمدان*

عن أشد الإمبراطوريات بأسا وأقصرها عمرا/حمدان حمدان*
قبيل اتخاذه قرارا بشن حرب ثلاثينية ضد العراق، في عاصفة الصحراء عام 1991، كان الرئيس جورج بوش الأب، يصرخ على الهاتف في وجه الملك الاردني حسين قائلا (لماذا تريد التوسط بيننا وبين مَنْ أثاروا المشكلة في وجهنا.. ان صدام حسين في سعيه للاستيلاء على الكويت، انما يريد السيطرة على ثلث الطاقة العالمية النفطية.. انه يلعب بنمط حياتنا كشعب امريكي)، وبالفعل، فانه مع انتهاء الحرب الباردة، فان وجودا لعرقلة الفرص المتاحة لتوسع امبراطورية رأس المال العالمي، لم يعد قائما، كذلك رافق انهيار المعسكر الآخر، صعود ايديولوجي لدرجة الزهو بنهاية التاريخ، مما زود العولمة الامريكية بحرية التصرف من اجل حماية وتعزيز رسوخ نمط الحياة الامريكية القائمة على حامل ثلاثي: الدولار والنفط والمدفع.

غير ان نمط الحياة الذي تشدد معه بوش الأب، لم يكن لكل الامريكيين بالطبع، فهناك بيانات تشير الى ان سدس الشعب الامريكي (زهاء خمسين مليونا من غير سلالة الانغلوسكسون!) يعيشون اما مع خط الفقر او دونه، كما ان طفلا من ستة اطفال امريكيين يبيت على الطوي نهار اليوم وليله، ونذكر ان الرئيس السابق كلينتون صرح ذات يوم بان واحدا بالمئة من تعداد الشعب الامريكي (اي زهاء ثلاثة ملايين) يمتلك ما يساوي ملكية ثمانين بالمئة من الشعب الامريكي (اي زهاء مئتين واربعين مليونا) اما البقية ما بين (المافوق والماتحت)، فانهم يصارعون صروف الدهر، ما بين الدخل والضريبة والتأمين والتقاعد..

ومنذ ان تم تحرير الدولار من قاعدة الارتباط بالذهب كمقياس اي اوائل السبعينيات، فان الولايات المتحدة باداراتها الجمهورية والديمقراطية، اطلقت العنان لمبدأ القبول بالاستدانة بالدولار، وذلك بغرض بناء هرم اسطوري من رأسمالية شمولية على نطاق عالمي، حتى وصل رقم الدين غير المدفوع الى مبلغ فلكي يقدر بثلاثة وثلاثين تريليون دولار على كاهل الادارات المتعاقبة، وهو دين يتوزع بين ديون اتحادية خاصة بالولايات، واخرى محلية مؤسسية وشخصية.. اما ديون امريكا الخارجية فتصل الى ثلاثة تريليون دولار، معظمها لصالح الصين واليابان.. وقد علق احد الاقتصاديين الماليين، بأنه من اجل سداد هذه الديون، فان على كل مواطن امريكي ان (يتبرع) للادارة بمبلغ مئة ألف دولار من جيبه الخاص! وبحسب المعدلات الجارية اليوم، فان ثمة زيادة في الديون الامريكية، للخارج، تتراوح ما بين اربعمئة مليار وخمسمئة مليار في السنة الواحدة، وهو دليل آخر على تفاقم المديونية الامريكية الخارجية، دون أمل في جسر الهوة لمستقبل منظور.

ومع وداعة الحديقة اللاتينية الخلفية للولايات المتحدة، واستقرارها لصالح مليارات الشركات الامريكية حتى وقت قريب، فقد وفر الانعتاق من مشاكل منظمات لا تينية تحررية، مع هزيمة "امبراطورية الشر" الشيوعية، كامل الغطاء للانتقال من مرحلة الاحاطة بمناطق النفط الى مرحلة السيطرة المباشرة عليها، ولم يكن هذا الانتقال صعبا بالنسبة للمنطقة النفطية العربية، خارج العراق، لوقوع عدم الفاصل بين الاحاطة والسيطرة اصلا، لكن العراق كان قد صادر قرار التصرف بالنفط بتأميمه.

وهناك واقعة تاريخية ذات دلالة، تشير الى شدة انغماس المصالح الامريكية بمستقبل النفط العراقي الذي يقدر احتياطه اليوم من امريكيين، بمئة وخمسة عشر مليار برميل، اي ما يساوي بأسعار اليوم، خمسة آلاف وستمئة مليار دولار، ولمدة نصف قرن مقبل ابتداء من عامنا هذا، وهذه الواقعة تشير الى انذار الرئيس الاسبق هنري ترومان، للرئيس السوفييتي جوزيف ستالين، بعدم الاقتراب من المياه الدافئة تحت وعيد الاستخدام المماثل للقنبلة الذرية في هيروشيما، حيث لم يكن السوفييت قد توصلوا الى صنعها بعد. فالنفط منذ نهاية الحرب العالمية الاولى كان في محل اهتمام اقصى لا بصفته شريانا وحيدا للصناعة بعد افول الطاقة على يد الفحم الحجري فحسب، بل بصفته اسبقية في الألعاب السياسية الماكرة، حين يبدو استعمار العراق واعادة استعماره والضغوط ما فوق الطبيعية التي مورست عليه بُعيد استقلاله، كلها ليست حوادث عارضة في تاريخ قسري مرتبط بالتحولات المضطردة لرأسمال عالمي، امام منطقة تصاغ بلغة جنتلمانية غربية بسائل حبر اسود، كما النفط في شكله الخام، او في كونه اسهاما استثنائيا في تراكم القيمة المضافة.. وهو ما يجعله النموذج المصطفى لسلعة تمثل سياسة مسبقة مناسبة وغير عادية، بل ووسيلة سيطرة مقبلة، تضعها في مصاف ازدراء حتى الشرعية الدولية، التي جلدتنا امريكا في سبيل صيانتها واحترامها.

فالطلب العالمي على النفط، يرتفع سنويا من الصين والهند فقط، بنسبة 2.5 بالمئة عن السنة السابقة، وبحكم عوامل، ليس اقلها عدم التوصل الى بديل للطاقة غير النفط، او الاضطلاع بتنفيذ سياسات ترشيد نفطية، لمئتين وسبعين مليون سيارة امريكية تجوب دواخل البلاد من المحيط الى المحيط.. ومع هذا المشهد الذي هو نمط حياة، فان السياسات في البلدان المتقدمة تواظب على تثبيت سعر وحدة الطاقة من النفط، بحيث يعادل نصف مثيله في البلدان المنتجة له، وفي جميع الاحوال فان احدا لا يستطيع الحد من توسع الطلب على كنز الطاقة الثمين، فالامر هنا لا يتعلق بالنفط كسلعة تجارية بين سلع اخرى، بل انه النفط في ذاته، كمنتج طاقة اول، ومَنْ يضع يده عليه، فانه يضع يده على مفاتيح القرن، لا لانه هو الوسيلة الفعالة لطرد اشباح المنافسين العالميين لقرن امريكا الراهن، بل لانه وهو في وضعه الخام، يشكل السلعة الاسرع في دورة رأس المال لانتاج الربح وما يسمى بالقيمة المضافة.

ولعل التشاؤم الامريكي كان قد بلغ ذروته حين اقدم العراق على تسعير نفطه باليورو، اذ رغم حصة العراق المتواضعة بالنسبة للانتاج العالمي آنذاك، الا ان الخشية من الخطوة (التسعير باليورو)، كانت كافية في ان تمتد لآخرين من المنتجين، فالعلاقة الطردية بين الهيمنة الامريكية وصحة الاقتصاد الامريكي، هي علاقة في اتجاهين متبادلين، وفرض الدولار كعملة عالمية يؤول الى فرض السيطرة على التجارة العالمية خاصة في بُعدها التصديري والاستهلاكي، كما يمد الولايات المتحدة بما هو ابعد من مجرد نفوذ على سياسات البلدان المنتجة، فالروابط بين نفط الخليج العربي والدولار أقام علاقات اجتماعية وثقافية وسياسية ما فوق اقتصادية، بل لعله اقام روابط عسكرية، سمحت لبعض دول الخليج بأن يُغزي بلد عربي شقيق من اراضيها، لمرتين في غضون عقد واحد دون تبكيت للضمير.

واليوم فان شعب العراق لا يبتغي من جواره العربي الا الراحة مع الاذعان، فقد قرر منذ وقت طويل ألا يعتمد الا على نفسه، وها هو يقارع اعظم قوى الارض باستبسال نادر، دفع بأصحاب القرار العالمي لان يعترفوا في وقائع ثلاث، اعتراف السيد بوش بمعلومات استخباراتية مغلوطة ادت الى شن الحرب على العراق، ومثلما ان الولايات المتحدة كانت على علم مسبق، بقرب استسلام اليابان في المراحل الاخيرة من الحرب العالمية الثانية بحكم شهادة اعظم جنرالين امريكيين في ميدان الحرب ذاتها (ماك آرثر ودوايت ايزنهاور)، فان امريكا اصطنعت الخطأ في التقدير، فأجرت تجربتها النووية الاولى، ولكن هذه المرة على الانسان والحجر والشجر.. كذلك فان القاء الملامة، على (المغلوط) من الاستخبارات، لا ينقذ من الحقيقة القائلة بان امريكا كانت على يقين من خلو العراق من اسلحة الدمار الشامل، وان بوش ومع الطاقم الامريكي- الليكودي، كانوا لا يخفون هوسهم بغزو العراق وربما منذ اللحظات الاولى لاداء اليمين الرئاسية.

اما الواقعة الثانية فتشير بالدليل الملموس، الى ضائقة بوش الخانقة، حين يضطر للتشاور مع وزراء سابقين لا دخل لهم في قرارات الادارة، ومن ثنائي الحزبين الجمهوري والديمقراطي على حد سواء، ورغم انها علامة ديمقراطية يمكن التباهي بها، الا انها مع ذلك، علامة تفصح عن اضطراب خطير، يمس وضع الولايات المتحدة مع الخارج بدءا من العراق، وليس انتهاء بالاوضاع الجديدة في امريكا اللاتينية، اذا لم يعد خافيا ان الحديقة الخلفية لواشنطن، عادت تميل نحو يسارها، ذي النكهة الوطنية الخاصة، وكاد يصبح في حكم المؤكد ان انتخابات ما ستجري في دولة من دول القارة، ستأتي بحكومة وطنية ويسارية، ففي الارجنتين وصل للحكم يساريون بزعامة آرنستو كيرتشز، وفي البرازيل يتموضع سياسيون برئاسة لويز سيلفا، وهم معادون لسياسات الولايات المتحدة في القارة، وفي الارغواي ينهض تيار شعبي مناهض لواشنطن، بزعامة تاباريه فاسكينتر، وفي مكان آخر من القارة، ثأرت بوليفيا لرمز الكفاح العالمي من اجل الحرية تشي غيفارا، حين انتخبت الهندي المتواضع من اصل السكان، ايفو موراليس.. وفي المحصلة فان ثلاثمئة مليون من مجموع سكان القارة البالغة ثلاثمئة وخمسة وستين مليونا، يقفون تحية لكاستر وشافيز، اما في تشيلي فسوف تفوز السيدة ميشلين باشليت، وهي التي ستنتقم لألندي آخذة ثأرها من واشنطن وربيبها بينوشيت.

اما الواقعة الثالثة في الاعتراف فانها تأتي على الطريقة الانكليزية التحريرية والتسللية فالديمقراطية عند السيد سترو وزير الخارجية البريطانية، هي ان تقبل بنتائج الانتخابات سواء جئت منصورا او مهزوما، ونحن نقبل مثل هذه النتائج، اذا قبل هو بمماثلتها في بلاده، من تزوير وشراء اصوات ونقل صناديق وانعدام احصاء وصهاريج انتخابية من ايران الى العراق.. فمشكلة واحدة على هذه الشاكلة، يمكن ان تقيم الدنيا ولا تقعدها في قرية بريطانية، فكيف الحال اذا كانت اللعبة التزويرية تعم بريطانيا العظمى؟ وفي الحقيقة فان السيد سترو في مهمته العيدية، لم يهبط فوق البصرة، كي يقول شيئا مهما، عن الانتخابات العراقية، بل شيئا محددا لجنوده المنهكين، وقد قالها ملء السمع والبصر (بعد اشهر قريبة جدا، سوف تبدأ القوات البريطانية انسحابها من العراق)، وسواء عُلقت الذريعة على مشجب انجاز المهمة في بناء قوات عراقية قادرة على ضبط الامن، او علقت على مشجب (النصر) الذي ادعاه بوش لنفسه، فان الحقيقة التي تفقأ العين، هي ان الولايات المتحدة وحلفاءها الصغار (خارجيا وداخليا) قد ظفروا بأفدح هزيمة في تاريخهم منذ فيتنام.



* كاتب فلسطيني يقيم في سورية

التعليقات