31/10/2010 - 11:02

عن دمشق الخارجة من حقبة الضغط الأمريكي../ عبد الإله بلقزيز

عن دمشق الخارجة من حقبة الضغط الأمريكي../ عبد الإله بلقزيز

حين زار وزير الخارجية الأمريكي السابق كولن باول سوريا، غداة غزو العراق واحتلاله، والتقى رئيسها الأسد، تصرف (الوزير) كمن أتى يملي شروط المنتصر على المستسلم: على سوريا إقفال مقرات ومكاتب الفصائل الفلسطينية المقاومة وطرد قادتها من البلاد، ووقف دعم المقاومة اللبنانية، وعدم استقبال البعثيين والعلماء العراقيين اللاجئين إليها، والتعاون الكامل مع الاحتلال الأمريكي في مراقبة حدود سوريا مع العراق، وطائفة أخرى من إملاءات دار في خلد كولن باول - ومن بعثه وحمله تبليغها - أن الرئيس بشار الأسد لا محالة مضطر إلى التجاوب معها من دون شروط، بل من دون حوار.

ربما لم يلحظ باول - أو لم يكن يرغب في أن يلحظ - أن ما تطالب به إدارته دمشق يعادل إحداث انقلاب سياسي شامل في خيارات النظام والدولة، ويدعو سوريا إلى العودة عن ثوابتها الاستراتيجية إلى حيث تصير دولة مسلوبة القرار والخيار: تدور في الفلك الأمريكي أو تشتري أمنها واستقرارها بإرضاء أمريكا، ولقد كان في وسعه أن يدرك بأن ما يطالب به سوريا إنما هو شأن يرقى إلى مرتبة اهانة الكرامة الوطنية، و- قطعاً - كان في وسعه أن يدرك سلفاً أن الحظ لن يحالف سعيه، وأن مخاطبة سوريا بلغة أوامرية هو أقصر سبيل إلى دفعها إلى نهج سياسة التمسك بثوابتها ولعله كان يملك أن يأخذ علماً بنوع “السيكولوجيا السياسية” السورية لو راجع أرشيفات وزارته وأرشيفات البيت الأبيض فقرأ التقارير والمحاضر المتعلقة بتاريخ العلاقات الأمريكية - السورية، وما دار في نطاقها من جولات حوار وتفاوض تعلمت فيها خمس إدارات أمريكية متعاقبة - قبل إدارة بوش هذه - كيف تخاطب سوريا وكيف تتفاهم معها.

ليس من شك في أن الظرفية السياسية التي حصلت فيها الزيارة واللقاء كانت صعبة للغاية ولا تفسح معطياتها كبير مجال أمام المعاندة أو التشدد في رد المطالب، لم يكن وارداً لدى سوريا - طبعاً - الرضوخ أو الامتثال للمطالب، لكنها، في الوقت عينه، كانت تعرف كيف تشعر مخاطبها الأمريكي بأن هذا الأسلوب غير مقبول في التعامل مع دمشق، وأن أمريكا إذا كانت ترغب - كما تدعي - في الاستقرار والسلام في المنطقة، فإن هذين من مطالب سوريا ابتداءً.

منذ تلك الزيارة وما رافقها من عدم ارتياح أمريكي لطريقة تجاوب سوريا، ذهبت إدارة جورج بوش بعيداً في حصار سوريا سياسياً وتكثيف الضغط الدولي والاقليمي عليها، ووصلت الأمور إلى حد الإيحاء بالتدخل العسكري فيها وتغيير النظام بالقوة، ومثلما نجح هذا الضغط في استدراج مواقف دولية ضاغطة على دمشق (من دول الاتحاد الأوروبي خاصة)، وفي تأليف محور رسمي عربي معارض لسياسات سوريا الإقليمية، نجح في نقل جبهة الضغط إلى الخاصرة اللبنانية بدءاً من صيف العام 2004: حين النجاح في استصدار القرار 1559 من مجلس الأمن.

وبعد اغتيال الشهيد رفيق الحريري، استأنف الضغط الأمريكي نفسه من طريق استعمال التحقيق الدولي في جريمة الاغتيال ورقة سياسية لابتزاز سوريا وترويج اتهامات بعلاقتها بذلك الاغتيال، ثم من طريق إقرار المحكمة الدولية وتهديد المسؤولين السوريين بها.

وفيما كان الضغط الأمريكي - الأوروبي يتقدم نحو الداخل السوري من طريق رعاية تحالفات بعض المعارضة في الخارج وتظهير “تحركاتها” وندواتها الصحافية إعلامياً، كان يشهد ذروته في صيف العام 2006 من خلال اجازة الحرب “الإسرائيلية” على المقاومة في لبنان والمحاولة الفاشلة لعزل لبنان عن سوريا من طريق إخضاع الحدود بين البلدين لمراقبة قوات “اليونيفيل”.

اليوم، تنصرم حقبة الضغط تلك بعد الذي لقيته من فشل ذريع في إركاع سوريا أو زحزحتها عن مواقفها، منذ زيارة نانسي بيلوسي - رئيس مجلس النواب الأمريكي - إلى دمشق، بدأ العد العكسي لذلك الضغط، وتسارعت وتائره أكثر منذ رحيل جاك شيراك عن قصر الإليزيه، ليأخذ دفعة أكبر بعد مؤتمر الدوحة للحوار الوطني اللبناني، نعم، مازالت الإدارة الأمريكية تتحرش بسوريا، وليس حديثها المتصاعد عن “البرنامج النووي السوري” إلا فقرة من ذلك التحرش. لكنها سلمت بهزيمة سياستها في لبنان وانتصار حلفاء سوريا في فرض الشراكة في الحكم وتغيير قانون الانتخاب، وتوقفت عن الاستعمال المغرض لموضوع المحكمة الدولية ضد دمشق (بل هي توقفت كلية عن الحديث عن المحكمة الدولية بعد أن استنفدت هدفها الابتزازي منها!)، وكفت عن اتهام سوريا بفتح حدودها مع العراق أمام تدفق السلاح والمقاتلين، ولم تعد معنية بتسويق الغادري أو تلميع صورة “جبهة الخلاص الوطني” لقد شربت كأس الضغط حتى آخر قطرة: ولكن ليس كنخب انتصار مثلما حلمت قبل سنوات خمس.

نجاح سوريا في فك العزلة عنها، منذ القمة العربية في دمشق وإلى القمة المتوسطية في فرنسا، والانفتاح الأوروبي والدولي المتزايد عليها منذ “اتفاق الدوحة” إنما هو ثمرة طبيعية لسياسة سورية مقتدرة، في إدارة الأزمات وامتصاص الضغوط وإحداث الاختراقات السياسية في جبهة الخصم وفي تحويل حالة الدفاع التراجعي إلى دفاع ايجابي متحرك. لكنه - في الوقت عينه - النجاح المحصود من سياسة أمريكية فاشلة في المنطقة وتجاه سوريا، وهي فاشلة لأنها لا تقرأ التاريخ وتتعظ بدروسه، ولأنها تصورت يوماً أنه يسع الإرادوية أن تلغي قوانين التاريخ الموضوعية فتصير قانونه الأوحد.
"الخليج"

التعليقات