31/10/2010 - 11:02

عنتريات صينية../ جميل مطر

عنتريات صينية../ جميل مطر
نعيش أياماً مثيرة نشهد فيها رفع الستار عن «البروفة»الأخيرة لعالم يتشكل بتوازن جديد للقوى الدولية، ونشهد أيضا في مكان آخر نزول الستار عن الفصل الأخير في مرحلة هامة من تاريخ مصر الحديث. وشتان ما بين أداء الأطراف الدولية التي تشارك في صنع العالم الجديد، وأداء الأطراف المحلية التي تنشغل في مصر بعملية إسدال الستار عن فصل ينتهي أكثر من انشغالها بكتابة فصل جديد.

سمعت مصرياً كبيراً يعمل بالسياسة يعلق على ممارسات مستقلة وتتسم بالجرأة تقوم بها دول وحــركات وأحـزاب أجنبية ويوجز تعليقه في كلمة واحدة: عنتريات. كانت المناسبة حديثاً يدور حول الاستغلال الأمثل لقدرات وإمكانات مادية ومعنوية بسيطة لتحقيق أداء متميز في السياسة الخارجية والحصول على مكانة متميزة إقلـيمياً ودولــياً. تجــولنا في أنحاء أميركا اللاتينية فكان النـموذج تجــربة كوبا وأداءها الممتاز على امتداد ستين عاما في مواجهة القطب الدولي الأعظم والأقوى.

وفى مرحلة سابقة كانت الهند ويوغوسلافيا ومصر نماذج على كفاءة الاستغلال الأمثل لموارد بسيطة في رسم السياسات الخارجية وتنفيذها.

ونشهد الآن، بانفعالات عديدة ومتضاربة، أداء تركيا المتميز خلال عهود الحكم الأخيرة وتجربة إيران بعد حربها مع العراق والأداء، وإن تفاوت، لحزب الله اللبناني وحماس الفلسطينية.

على كل حال، كانت الصين دافعنا في هذه الجلسة لمناقشة موضوع الأداء المتميز في صنع السياسة الخارجية. كنا في الحقيقة نردد، مع كثيرين غيرنا في مناطق أخرى، التساؤل عن الأسباب التي دفعت كلاً من الولايات المتحدة والصين، وبخاصة الصين، لتصعيد نبرة التوتر في العلاقات بينهما، وهل كانت قرارات الصين ومواقفها الأخيرة مجرد عنتريات بحسب وصف بعض السياسيين المصريين لسياسات وقرارات تتخذها حكومات تركيا وإيران وكوبا وسوريا وحماس وحزب الله وفنزويلا والبرازيل، أم كانت تجارب مدروسة حققت مكاسب سياسية أكبر وأهم من المكاسب التي تحققها دول تخضع لأنظمة حكم رزينة وقانعة ومتهادنة مع «أدنى مستويات الواقع وظروفه».

أن تقرر حكومة أوباما الدخول في عدد من المواجهات مع الصين وأن تصعد لهجة التعامل معها، فهذا تطور يمكن فهمه بسرعة وبساطة. فإدارة الرئيس أوباما محشورة في شبكة مشكلات، أكثرها داخلي. كانت الإدارة إلى وقت قريب مراهنة على شعبية الرئيس أوباما للمحافظة على أغلبيتها في الكونغرس وتجميل صورة أميركا الخارجية وربما استعادة بعض مكانتها. ولكن مع تردي الأوضاع الداخلية في أميركا هبطت شعبية أوباما في الداخل كما في الخارج، ولم تجد الإدارة مخرجاً مؤقتاً إلا التراجع عن وعود ومبادئ وسياسات التزم بها أوباما في حملته الانتخابية، واسترضاء قوى داخلية لها مصالح في الخارج أو معه. من هذه القوى الجماعات اليهودية، وهذه بعث لها أوباما بإشارات عديدة جاءت جميعها على حساب الجانب الفلسطيني والعربي. منها أيضا «مؤسسات الحرب الباردة»، مثل بعض تيارات وقيادات المؤسسة العسكرية، وجماعات المحافظين الجدد، ومؤسسة صناعة السلاح، وشركات المرتزقة والأمن الخاص، بالإضافة إلى مؤسسة غير معترف بها ولكنها لا تزال مؤثرة، وهي العنصرية الموروثة من القرن الثامن عشر ضد الجنس الأصفر. وهذه جميعا عادت تسترضيها إدارة الرئيس أوباما بتصعيد سياسات المواجهة مع الصين، فكان أن قرر استقبال الدالاي لاما، رغم كل تحذيرات الصين واعتراضاتها، وقرر تنفيذ صفقة سلاح مع تايوان بعد سنوات من الالتزام الضمني الأميركي بعدم تزويد تايوان بأسلحة متقدمة، ولمّح مرارا إلى نية أميركا فرض عقوبات تجارية على الصين إذا استمرت ترفض رفع قيمة عملتها بالنسبة للدولار وتمنع فتح السوق الصينية أمام سلع أميركية معينة، وأخيرا كلف مؤسسات الحكم المعنية بنقل بؤرة التركيز في السياسات الخارجية الأميركية من أوروبا إلى آسيا وطمأنة دول شرق وجنوب شرق آسيا على أمنها.

أعلن محللون تفهمهم لهذه التطورات في السياسة الخارجية الأميركية، وبخاصة بعدما تعمدت الصين في الأشهر الأخيرة الإعراب عن نيتها ترجمة قوتها الاقتصادية في قوة سياسية. لم تكن واشنطن وحدها التي وصلها هذا الإعراب، ففي كوبنهاغن أبلغت الصين العالم بأسره أنها من تاريخه سوف تنطق باسم شعوب العالم الفقيرة من موقعها كقطب جديد في القيادة الدولية. وفي الموضوع الإيراني، أجرت بكين بعض الحسابات فوجدت أن تخصيب اليورانيوم الإيراني مسألة تهم أطرافاً معينين لهم مصلحة في إسقاط نظام الحكم في إيران وأطرافاً آخرين يرفضون فرض الهيمنة على إيران ونفطها وطاقتها الدينية وقوميتها الفائرة من جديد، وكلها قضايا لا تهدد بوضعها الحالي أولويات الصين الإقليمية. وجدت أيضا أنها تستفيد أكثر لو استخدمت موقعها في مجلس الأمن لعرقلة الجهود الأميركية الإسرائيلية في الشأن الإيراني، ستستفيد مكانة أكبر ونفوذاً أعظم مما لو انساقت مع المنساقين في الحملة المسعورة لشن حرب جديدة في الشرق الأوسط. تعرف الصين أنها قد لا تفلح في منع نشوب حرب تشنها إسرائيل وتدعمها الولايات المتحدة عن بعد أو عن قرب، ولكنها تعرف أنها بمعارضتها، ستفلح حتماً في كسر الإجماع الذي تسعى إليه إسرائيل وأميركا، وهذا إنجاز كاف يؤكد قيمته التدهورات المتلاحقة في مكانة أميركا منذ شنت الحرب ضد العراق وسط شكوك باقية إلى اليوم، وتعرف أيضا أن تباطؤها في التعاون مع أميركا لفرض تسويات دولية يجعلها في موقف أقوى تجاه أميركا والغرب.

وعندما تدخل بكين في مواجهة مع شركة غوغل، ومع مؤسسة الشبكة الإلكترونية التي تتحكم فيها واشنطن، فإنها تعلن للعالم بأسره أنها لن تقبل المشاركة في قيادة العالم تحت مظلة مبادئ الولايات المتحدة وأفكارها، أو أي قطب دولي آخر، بل سوف تصر على أن تسترشد بمبادئ الصين وأفكارها وليس بمبادئ وأفكار أطراف أو عقائد أخرى. وعندما تلمح بكين إلى أنها قد لا تحضر مؤتمر نزع السلاح المزمع عقده في واشنطن في نيسان المقبل، فإنها تقول للغرب إنها لن تشارك في مؤتمرات تخضع لمنظومة فكر وأيديولوجية وقيادة تنتمي إلى مرحلة تنتهي، وإنها حين تقرر الاشتراك، فسيكون بعد أن توافق الولايات المتحدة وحلفاؤها على تغيير كثير من القواعد والمبادئ التي التزمها النظام الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

وجدت في مقال نشرته مؤخرا الإيكونوميست البريطانية ما يؤيد ما ذهبت إليه عن نية الصين أو شرطها تغيير قواعد النظام الدولي ومبادئه قبل الموافقة على التعاون في حل المشكلات الدولية. جاء في المقال، أنه لأول مرة منذ ثلاثين أو أربعين عاما، يظهر ما يمكن أن يطلق عليه «إجماع بكين» في مواجهة «إجماع واشنطن» الشهير. ولدى الصين ما يؤكد أنها تستحق أن يكون لها إجماعها كما يستحق لواشنطن إجماعها، فالصين بنظام سياسي بخصوصيات معينة وممارسات داخلية مختلفة عما تدعو إليه أميركا حققت انتصارات سياسية متواصلة، وبنظام رأسمالي مختلف أثبتت نجاحاً لم يتحقق مثله في دول إجماع واشنطن، وبمنظومة السياسة الخارجية حققت الصين انتشاراً وكسبت مصداقية لدى عشرات الدول في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية وضاعفت نفوذها فيها.

سنوات قليلة ونكون شهوداً على مرحلة جديدة تتبوأ فيها الصين مكانة استحقتها، بفضل رؤى ثاقبة وحسابات عقلانية وحسن استخدام للموارد وجرأة في تشغيل مصادر القوة وحكمة في توظيف الشعور القومي لخدمة الأهداف بعيدة الأمد. وما زال صديقنا المسؤول المصري مصراً على أنها كلها «عنتريات صينية».
"السفير"

التعليقات