31/10/2010 - 11:02

عندما تنكسر الموجة قبل أن تتحول إلى انتفاضة../ زكريا محمد

عندما تنكسر الموجة قبل أن تتحول إلى انتفاضة../ زكريا محمد
للانتفاضة شعبية في الخارج لا في الداخل، في الضفة لا في الشتات.
المزاج العام لا يميل إليها.
تؤكد هذا استطلاعات الرأي العام، وتؤكده الحركة على الأرض.

يمكن للمرء أن يقترح أسبابا عدة لانعدام شعبية الانتفاضات، من بينها أن الناس قد أنهكت بعد الانتفاضة الثانية، وأنها بحاجة إلى راحة أطول. ومنها أن الناس لا تريد أن تتخلى عن التحسن الاقتصادي بعد سنوات تشبه سنوات الجوع في ظل الانتفاضة إياها. ومنها أيضا (اليد الثقيلة) لأجهزة السلطة، على حسب تعبير قيادات حماس. وكل هذا يلعب، ولا شك، دورا في كبح ما يسمى بالانتفاضة الثالثة، ويؤخر موعدها المأمول.

لكننا نعتقد أن السبب الأهم وراء خشية الناس من الانتفاضات، ووراء عدم رغبتهم فيها، يكمن في الطريقة التي أديرت فيها الانتفاضتان السابقتان. فقد تم التعامل معهما بشكل غير حذر، بل وبطريقة استغلالية مجحفة ومدمرة. إذ تم مدّ الانتفاضة الأولى بوسائل اصطناعية، وبقرارات إرادية، لا تدرك طاقة الناس ولا تداريها.

ورسميا، فقد استمرت الانتفاضة الأولى من أواخر عام 1987 إلى عام 1993. بل إن بعض مظاهرها، مثل إضراب اليوم التاسع من كل شهر، وهو يوم انفجار الانتفاضة، ظل يفرض من قبل مجموعات الفوضى والعنف، بالرغم والقهر، حتى عام 1995. وكان بعض الناس قد سمى هذا اليوم تهكما باسم (العادة الشهرية)، تشبيها له بالعادة الأنثوية.

وأذكر أنه في عام 1991 كان لا يزال هناك في الجبهة الديمقراطية مثلا، من يدعو إلى تحويل الانتفاضة إلى عصيان مدني شامل!! كانت الانتفاضة قد انتهت فعليا منذ زمن بعيد، بعد ان حاولت العصيان المدني ولم تنجح، لكن أناسا في الخارج كانوا ما زالوا يتحدثون بعد عن تطويرها إلى عصيان مدني!!

مدّ الانتفاضة، كرها ورغما، إلى سنوات، على أمل ان تحصل القيادة على شيء ما، أدى إلى أن تصبح الانتفاضة (مَكْرهة) اجتماعية اقتصادية وسياسية، خاصة بعد ان اخترقتها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، ودفعت في أعماقها عنفا فلت من عقاله. وبهذه الطريقة تحولت الانتفاضة إلى أمر مفروض من الخارج عن الناس، بعد أن كانت انفجارا إراديا لطاقتهم وحريتهم.

لم تكن القيادة تهتم بالناس. لم تكن تعرفهم، وتعرف حدود طاقتهم. كانت راغبة في الحصول على شيء، فشدت الخيط حتى قطعته.

والحق أن مثل هذا حدث عام 1936. فقد بدا الأمر بإضراب ناجح، ثم ما لبث هذا الإضراب أن أطيل ومد، ثم تحول إلى مواجهة مسلحة، حتى أنهك الناس وطحنوا. يعني: كنا نستطيع أن نبدأ، لكننا لم نكن نعرف متى نتوقف.

والسياسة تتعلق في الحقيقة بمتى تتوقف. إن لم تستطع ان تحدد بشكل صحيح لحظة التوقف فسوف تخسر كل ما كسبته. الانتفاضة الأولى كان يمكن ان تتوقف بعد شهر أو شهرين، أو بعد ستة أشهر على ابعد تقدير، لكن القيادة، وبقرار مباشر وواضح، قررت ان تطيلها إلى ما لا نهاية، مما أدى إلى تفكيك المجتمع في لحظة من اللحظات.

كانت قيادة مبذرة، بل وشديدة التبذير، في ما يخص طاقة الناس. كانت (تريد) من دون أن تسأل عن (إرادة) الناس وطاقتهم. وبهذا المعنى، فقد كانت قيادة متطرفة مجازفة، ولا تهتم بشعبها فعلا.

ثم جاءت الانتفاضة الثانية كي تزيد الأمر سوءا. ففي جانب منها كانت هذه الانتفاضة مفروضة. أو قل كانت هذه الانتفاضة نصف مفروضة نصف مرغوبة. وقد أطيلت هي الأخرى، ومطت، حتى أنهكت الناس.

أكثر من ذلك، فقد كانت هناك نزعة لدفع الناس إلى مواجهات دموية لا ضرورة لها. كانوا يعلمون أن إسرائيل قررت، بعد مفاجأة هبة النفق، ان تضرب بعنف، وان تضرب في الصدور والقلوب، لكنهم كانوا، بشكل ما، يدفعون الناس نحو النار. وحسب الأقاويل فحين طلب من القيادة ان تنتبه إلى حجم الضحايا الكبير، ردت بالقول: (ما حدا يسأل قبل أن نصل إلى ألف شهيد)!!

لم يكن لدى القيادة وقت، كانت تريد ان تحصل على شيء سريعا، وكانت تتوهم أنها ستحصل عليه سريعا، لذا رمت بالناس إلى النار. لم تكن تدرك ان المعركة طويلة، وأن عليها ان لا تبذر طاقة شعبها. لا، كانت تعتقد أن الحل قريب، وانه إن لم يأت بموجة الدم هذه فسيأتي، بالتي بعدها، وإن لم نحصل عليه بهذه الانتفاضة، فبالتي تليها. وهكذا، انتقلنا من هبة إلى هبة، ومن انتفاضة إلى انتفاضة، ومن دون هدوء.

هذا هو حذر الناس من الانتفاضات.
هذا هو سبب سمعتها السيئة.
فهي عند الناس فوضى وعنف، ومواجهة يتم مطها إلى ما لا يطيقون.

بالطبع، علينا ان نعترف أن القيادة الحالية (قيادة الرئيس عباس) كانت ضد هذا الأسلوب. فهي أرادت وقف الانتفاضة الأولى بعد أسبوعين من انفجارها. كما أنها كانت ضد الانتقال بها إلى الشكل المسلح. وكان هذا يحمل قدرا أفضل من تقدير طاقة الناس. لكن هذا سرعان ما تحول هذا إلى موقف أيديولوجي متعنت لا يقف ضد افتعال الانتفاضات، ضد فرضها، أو ضد تطويلها، وضد تحويلها إلى العنف، بل ضد المقاومة بأي شكل كانت.

المقاومة بحد ذاتها كانت مرفوضة. وانقسمت الحياة عند هذه القيادة إلى انتفاضة مسلحة معسكرة أو إلى مفاوضات. فإما هذه وإما تلك، ولا شيء يتوسطهما. بالضبط كما هو الحال مع نظام مبارك في مصر. فكلما طلب منه الناس التصدي للسياسية الإسرائيلية قال لهم: عايزينا نحارب؟ إحنا موش حنحارب. فإما الاستسلام لإسرائيل وإما شن الحرب فورا، ولا وسط بينهما.

هذا التطرف المعاكس كان يقوم على أساس الوهم القديم ذاته: أي أن الحل قريب جدا، وبين اليدين. فإذا لم يأت في هذه الجولة من المفاوضات، فسوف يأتي في التي بعدها.
الوهم ذاته كان يقود على انتفاضات لا تتوقف، أو مفاوضات لا تتوقف.

والحقيقة أن الإدارة السيئة للانتفاضتين السابقتين هي الصخرة التي تستند إليها القيادة الحالية في رفضها للمقاومة، أيا كانت. فكلما حاول احد أن يرفع الصوت ذكرت الناس بالفوضى والعنف. وفي الخوف من الفوضى والعنف نجد جذر عدم رغبة الناس في توسيع الصدامات مع إسرائيل إلى انتفاضات.

هنا، بالضبط هنا، تتكسر كل موجة تحاول أن تتحول إلى انتفاضة ثالثة. خوف الناس من العنف والفوضى، لا القمع واليد الثقيلة لأجهزة السلطة هي التي تؤخر الانتفاضة الثالثة أو تمنها من الميلاد. فهذه اليد لا تكفي وحدها لكبح الناس إذا أرادوا ان ينتفضوا. هي تنفع لأن الناس حذرة من الانتفاضات بعد تجربتها المباشرة.

غير أن على القيادة الحالية ان لا تنام على حرير خوف الناس من الانتفاضات، وعدم رغبتها فيها. فروح المقاومة تتصاعد في القدس وفي كل مكان. واليأس من سياسة التفاوض ولا شيء غير التفاوض تزيد من غضب الناس، وتدفعهم إلى أن يبحثوا عمن يقودهم إلى المقاومة والعمل. هم لا يريدون انتفاضات الفوضى، لكنهم لا يريدون مفاوضات العبث والجنون. يريدون طريقا وسطا بينهما. طريقا مقاوما لا يصل إلى حد الانفلات والفوضى، ولا يجعل طاولة المفاوضات هدفا بحد ذاته.

القيادة السابقة لم تدرك طاقة الناس وحدودها، فأنهكتهم.
أما القيادة الحالية فهي تتجاهل رغبة المقاومة التي تتصاعد في قلوب الناس، وتحبطهم.

وبين هذين التطرفين يبحث الناس عن طريق وسط،
طريق يبقي النار مشتعلة، لكن من دون أن يؤدي ذلك إلى إحراق البيت.

التعليقات