31/10/2010 - 11:02

فرح طال انتظاره وحزن سيطول ايضاً../ فيصل جلول

-

فرح طال انتظاره وحزن سيطول ايضاً../ فيصل جلول
عم الفرح ألبان كوسوفو لحظة اعلان الاستقلال الأحد الماضي، وعم الحزن والغضب شمال الإقليم حيث تقيم الإتنية الصربية. وفي صربيا نفسها. ذلك أن الصرب يؤمنون بأن مهد كنيستهم الأرثوذكسية قد ضاع مع هذا الإعلان. انه الفرح الذي طال انتظاره هنا والحزن الذي سيطول من الآن فصاعداً هناك. إنه الأمل الكامن بنشوء ألبانيا الكبرى هنا والحلم المكسور بمشروع صربيا الكبرى هناك. هكذا هي أرض البلقان التي عرفت شعوبها على امتداد التاريخ الحديث والمعاصر أفراحاً على أنقاض أحزان وآمالاً على أنقاض أحلام محطمة، إنها الأرض التي تسببت بالحرب الكونية الأولى في القرن العشرين والبركان الذي ما انفكت أوروبا تخاف ثورته، ولعل هذا الخوف يكبح هذه الأيام تظاهر الأوروبيين بانتصارهم الماثل في تغيير جزء من خريطة البلقان السياسية على الضد من مصالح السلاف الأرثوذكس من موسكو إلى بلغراد وما بينهما.

الرد الروسي على استقلال كوسوفو كان معلناً ومعروفاً ليس فقط برفض هذا الاستقلال وإنما عبر رعاية استقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية ما يهدد وحدة أراضي جورجيا المتطلعة نحو أوروبا والحلف الأطلسي منذ انهيار الاتحاد السوفييتي. وربما لن تقف نزعة الانفصال عند هذا الحد فقد يوقظ استقلال كوسوفو أرمن نارغورنو كاراباخ ويعزز تصميم الانفصاليين الباسك والكورسيكيين والقبارصة الأتراك واتنيات أخرى مستضعفة طامحة للتخلص من ظلم إتنيات أكبر منها، ما يعني أن أبواب الاستقلال أو الحكم الذاتي الواسع قد فتحت على مصاريعها وأن إرادات الدول الكبرى لن تكف عن رسم وإعادة رسم الخرائط داخل وخارج المنطقة التي خرجت على حين غرة من تحت العباءة الروسية مع انهيار الحرب الباردة.

لا جدال في أن رفع الظلم الصربي عن ألبان كوسوفو أمر محمود ومصيري بالنسبة لهذ الإقليم الذي قرر سلوبودان ميلوسيفتش في العام 1991 حرمانه بجرة قلم من الحكم الذاتي فألغى قوانينه ومؤسساته وأخضعه للحكم الصربي البوليسي المباشر. بالمقابل لا جدال في أن هذا الاستقلال يفصح مرة أخرى عن انعطافة غربية ما برحت تشير إلى رغبة جامحة في إعادة رسم خرائط العالم السياسية كلما كان ذلك متاحاً وفق مشيئة ومصالح الغربيين فرادى وجماعات. بالأمس خمس من جمهوريات يوغسلافيا السابقة وتيمور الشرقية واليوم كوسوفو وغداً جنوب السودان ودارفور وفدراليات العراق وربما مقاطعات في باكستان وافغانستان ولبنان وهكذا دواليك.

الثابت أن احترام حدود الدول المقدسة خلال فترة الصراع القطبي بين واشنطن وموسكو ورعاية الامم المتحدة لهذه الحدود قد ساهم إلى حد بعيد في الاستقرار الذي ساد العالم خلال نصف القرن التالي للحرب الكونية الثانية، وكان من الطبيعي أن يؤدي الخلل في التوازن العالمي بعد سقوط الاتحاد السوفييتي إلى تثبيت الانتصار الغربي في الحرب الباردة، وبالتالي انتزاع مناطق نفوذ من فم الروس ورثة الامبراطورية الشيوعية. فقد وصلت القواعد العسكرية الغربية إلى حدود الروس المباشرة ووصلت قواعدهم الحقوقية إلى الشيشان في عرين الاتحاد الروسي من دون أن تلوي موسكو على شيء. ولعل احتلالها موقع المتفرج في العام 1999 في الحرب الاطلسية على حليفها الصربي خير تعبير عن عجزها وانكسارها الذي ترسخ تالياً في قرار الأمم المتحدة 1244 الذي أنهى الحرب ووضع كوسوفو على طريق الاستقلال واليوم تطلق إدارة بوتين الرصاصة الاخيرة في هذا النزاع عبر دعوة مجلس الأمن إلى رفض استقلال الإقليم واحترام نص القرار الأممي الذي ينص على استقلال ذاتي واسع تحت السيادة الصربية، لكن أحداً في المجلس لا يقاتل معها ولا يقيم وزناً لجوهر القرار ذلك أن القرارات الأممية يصنعها الأقوياء ويخرقها الأقوياء ولا يتمسك بها إلا أولئك الذين تعوزهم القوة.

إن العودة الروسية المتدرجة في زخمها إلى المسرح الدولي مع فلاديمير بوتين ليست كافية لإنقاذ الصرب من تجرع كأس كوسوفو المرة، وليست كافية أيضاً لفتح أفق آخر أمامهم غير الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ما يعني أن موسكو ما عاد لديها ما تقوله في آخر فصول الاستقلال لدول يوغسلافيا السابقة (سلوفينيا كرواتيا البوسنة والهرسك مقدونيا والجبل الأسود) وإن كان صوتها سيعلو في مناطق أخرى.

ثمة من يرى أن استقلال كوسوفو يلحق إهانة بالأمم المتحدة ويوجه ضربة قاصمة للقانون الدولي. هذه الرؤية ليست سديدة تماماً فقد سبق للمنظمة الدولية أن تلقت صفعة قاسية في حرب العراق ومن ثم تكيفت مع نتائج الحرب، والراجح أنها لن تجد صعوبة في التكيف مع الاهانة الجديدة في كوسوفو، فالمنظمة تعكس ميزان قوى عالمياً يفرض من خلاله السادة ارادتهم على الضعفاء.

من جهة ثانية ليس من الصعب تبين مظاهر الاحتفال باستقلال كوسوفو في العالمين العربي والإسلامي إلى حد أن البعض يرى أن الولايات المتحدة ليست خصماً دائماً للمسلمين، وإنما ساهمت في تحريرهم من “الاستعمار السوفييتي” في أفغانستان، وها هي تغطي استقلال المقاطعة الألبانية المسلمة. تعاني هذه الرؤية من قصور مخيف إذ تهمل المعنى الرمزي لهذه الخطوة التي ربما تمهد لتغيير جوهري في خرائط الدول العربية والمسلمة حيث تنتشر النزاعات الاتنية والطائفية على مد النظر من شمال العراق وجنوبه ووسطه إلى جنوب السودان وغربه وشرقه إلى الصومال المهمل، ولبنان الذي يترنح على حافة الهاوية، إلى باكستان وأفغانستان علماً أن قصور رؤية المحتفلين باستقلال كوسوفو سابق على الحدث وماثل في تيمور الشرقية لمن ينظر في الاتجاه الصحيح.

قصارى القول إن استقلال كوسوفو ينطوي على فعل تحرر تاريخي لطالما انتظره المسلمون الألبان من جيل إلى جيل وعلى عقاب تاريخي تسبب به التعنت الصربي برئاسة سلوبودان ميلوسيفتش وعلى استضعاف منطقي للروس الذين خسروا الحرب الباردة وعلى قانون دولي يفصله الأقوياء بما يتناسب مع مصالحهم، لكنه لا يستدعي الاحتفال في بلاد العرب والمسلمين المهددة بتقسيم المقسم وتجزئة المجزأ.

"الخليج"

التعليقات