31/10/2010 - 11:02

فلسطينيو لبنان وإغراء اللحظة اللبنانية../ أحمد جابر*

فلسطينيو لبنان وإغراء اللحظة اللبنانية../ أحمد جابر*
مرت عقود على انطلاقة حركة التحرير الفلسطينية، ولم يزل الحديث عن الوجود الفلسطيني في لبنان، حديثاً داخلياً لبنانياً، فواقع الكتلة الاجتماعية الفلسطينية يختزن جملة من المعاني التي يقيم اللبنانيون على تماس معها، ويتقاسمون، والفلسطينيين أجزاء من أعبائها، مثلما يشاركونهم الاتفاق مع تفسيراتها أو الاختلاف مع الاجتهادات السياسية والنظرية المتعلقة بها...

هكذا كان الأمر دائماً مع النظرة إلى الصراع العربي الإسرائيلي ودور لبنان فيه، وإلى السبل الكفاحية الأنجع، التي تكفل «استرداد الحق السليب» وإلى جدوى الوسائل السياسية، بشقيها السلمي والقتالي، في الوصول إلى «انتزاع الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني».

لطالما جرى تحميل «الكتلة الشعبية الفلسطينية» وزر المساهمة في اهتزاز الاستقرار اللبناني، من قبل فريق من اللبنانيين، ولطالما طلب منها الاستجابة «للآمال الثورية» لفريق آخر من طريق الإسهام الوازن في ترجمتها واقعاً عملياً على الأرض... لذلك وبعد انقضاء سنوات طويلة على وقف الحرب الأهلية اللبنانية، التي كانت مفاعلاً لتلك «الأوزار»، لم تزل «المساهمة الفلسطينية» موضع تجاذب لبناني، وفق المآل الذي آل إليه وضع الفلسطينيين في لبنان، وبالاتصال مع تبدل «اللاعبين السياسيين» المحليين، من مناوئين ومحبذين لأبناء «قضية العرب الأولى»... فلسطين.

يتصل الوجود الفلسطيني السياسي، اليوم، اتصالا وثيقاً بفلسطين ـ الداخل ـ وهذا هو المستجد الأساسي الذي نقل ثقل الصراع من «دول الطوق» إلى الداخل الفلسطيني، أي إلى التماس المباشر مع الاحتلال، فوق أرض فلسطين التاريخية على خلفية هذا الانتقال، وبالتناغم مع مفاعيله المقررة في «فلسطين»، انتقلت الدينامية الفلسطينية في لبنان من موقع «صانع الأحداث» إلى موقع المواكب السياسي الذي يرفد مواقف «الداخل» ويضيف إلى شرعية سلطته التمثيلية ويعلن تمسكه ببرنامج «سلطته» ويزن خطاه السياسية بميزانها...

لقد قدّر للواقع السياسي اللبناني أن يسمع قولاً سياسياً فلسطينياً بمثابة ثوابت تتعلق «بالساحة اللبنانية»، من مفرداته: الحفاظ على استقرار لبنان، والحرص على السلم الأهلي فيه، والنزول تحت سقف المصلحة الوطنية اللبنانية العليا، والتقيد بأحكام القانون، والتمسك بوحدانية قرار السلطة اللبنانية (ما يناقض دولة ضمن الدولة)... كل ذلك بالارتباط مع ثوابت، هي بمثابة حقوق للفلسطينيين على «الأخوة اللبنانيين» من قبيل: طلبات تحسين ظروف المخيمات، وتأمين فرص العمل، والاعتراف بمرجعية الشعب الفلسطيني السياسية، وتمكينه من التعبير عن هويته النضالية وأهدافه السياسية بحرية، والتعامل مع الوجود الفلسطيني كقضية شعب، وليس كقضية لاجئين فقط، مع الانتباه إلى الفارق السياسي الأصلي الذي يفصل بين التعريفين.

ما تقدم يدل على مستوى التسييس الذي يتمتع به الوجود الفلسطيني في لبنان، وعلى شمول هذه الصفة لمختلف فئات الكتلة الشعبية الفلسطينية على اختلاف انتماءاتها السياسية ومشاربها الإيديولوجية. في هذا المجال تقتضي الإشارة إلى أن الوزن الغالب سياسياً على هذه الكتلة، ما زال «وزن التأسيس»، أي مرجعية «حركة فتح» ومنظمة التحرير الفلسطينية بالتحديد ـ ذلك أنه ورغم النهوض الذي عرفته حركة «حماس» في الداخل الفلسطيني، فإن هذه الأخيرة ظلّت «بنت الداخل»، ولم يقيض لها، برغبة منها أو بسبب من الوضع الفعلي هنا، أن تتحول إلى القطب الجاذب الآخر الذي يستطيع أن ينال من «قطبية فتح» في مخيمات لبنان، لا شك أن للأمر تاريخه ووقائعه، لذلك فإن «جذب فتح» الذي استعصى على محاولات الإلحاق والتطويع العربية، بأدوات فلسطينية وغير فلسطينية، هذا «الجذب» ما زال محتفظاً، على الأغلب، بقوة ثباته الاستقلالية.

التشديد على هذه النقطة يكتسب أهميته، خاصة عندما تستعيد الذاكرة مراياها فترى فيها أكثر من معركة فلسطينية ـ عربية، دارت كلها حول انتزاع القرار الوطني الفلسطيني المستقل، بصفته الضامن الأول لتقدم المسيرة الفلسطينية.

لقد وقع العبء السياسي والقتالي الأول، في معركة الاستقلالية على «الحركة الأم ـ فتح» مما شكل لها رصيداً مهماً لدى الشعب الفلسطيني، تتكئ عليه «فتح» الآن، مثلا تقيم عنده «سلطتها الوطنية» هذا المخزون الفلسطيني، نجده، في علاقته مع يوميات السياسة اللبنانية، في موقف دقيق. من منطلق «نضالي» تصير صياغة «الحيادية» الفلسطينية صعبة، ومع فرز المواقف، وواقع الاصطفاف اللبناني، بمنوعاته، تصير الصعوبة مركبة وشديدة التعقيد، حتى ليبدو إعلان النوايا الفلسطيني القائل «بأن الفلسطيني على مسافة واحدة من الجميع»، نوعاً من المجاملة السياسية التي يقبل اللبنانيون بالإدلاء بها في مجالسهم، لكنهم لا يركنون إلى «صدقها» كثيراً، حتى ولو لم يشككوا بها علناً، وعلى رؤوس الأشهاد.

نستطيع القول في هذا المقام، أن الفلسطيني ليس محايداً عندما يتعلق الأمر بالصراع مع إسرائيل، لذلك نفترض أنه يكون أقرب، موضوعياً وعاطفياً، إلى القوى التي تخوض ذلك الصراع ـ لكن هذا الميل «الوجداني» في لبنان لا يجد طريقه إلى الاشتراك الميداني مع «قوى الصراع»، فمحاذير هذا الاشتراك كثيرة، تبدأ من الاعتبارات اللبنانية ـ اللبنانية، مروراً بالأحكام الفلسطينية ـ اللبنانية، وصولاً إلى قواهر العلاقة الفلسطينية ـ الإسرائيلية.

لا يمكن، في الحالة اللبنانية المتداولة، تصنيف الفلسطينيين مذهبياً، مع أن ثمة من اللبنانيين من يحدث نفسه بذلك، كذلك لا يمكن إغراء الفلسطينيين «نضالياً»، مع أن ثمة من اللبنانيين من يحاول «استنهاض همتهم النضالية». الاعتقاد السائد أن القيمين على محصلة المصالح الوطنية الفلسطينية، في فلسطين وفي الشتات، يقرأون في كتاب واضح، مثلما يجيدون القراءة بين السطور.

قد يتراءى من «استنطاق القراءة» أن الفلسطينيين يدركون مدى صعوبة العروبة التي يطرحونها على العرب عموماً، لذلك فهم يتفهمون بعض الطروحات العربية، لدى قوى لبنانية جديدة أو عتيقة، ويأخذونها على محمل «توفير غطاء اضطراري» للبعض، أو على محمل استبدال عروبة بأخرى من قبل البعض الآخر...

وبالتأكيد لا يتوقف الفلسطينيون أمام تعريفات العروبة المتبادلة، لبنانياً، اليوم من نوع عروبة حضارية، أو عروبة إلحاقية، أو... إذ لديهم تعريفهم البسيط للعروبة التي تحسن الإقامة على تخوم الصراع مع فلسطين او تندرج فيه بوسائل متعددة، وتقوم بترجمة ذلك بالإضافة الوازنة السياسية وغيرها، إلى الجهد الفلسطيني في الداخل وبالالتفاتة المتضامنة العروبية الجادة إلى الشعب الفلسطيني في الخارج.

أمر كهذا ما زال مفتقداً، بل إن ما كان متحققاً منه لبنانياً وعربياً تبدد، وحل محل ذلك نوع من «العلاقة الخجولة» أو التخلي المضمر، أو الاتهام المعلن، أو التدخل والتلاعب الفظ بالشأن الداخلي الفلسطيني.

يدرك الفلسطينيون أنهم بلا حليف لبناني حقيقي اليوم، فزمن الحلفاء ولّى على الأرجح بعد اجتياح بيروت في العام ,1982 ويدركون أيضاً أن كتلتهم الشعبية في لبنان تتحرك وسط الأعاصير... لكنهم في كل الأحوال مجبرون على صياغة استقلاليتهم الوطنية كل يوم وضمن دوامة الظروف المتبدلة، وعلى إيقاع الصعوبات المتفاقمة، وفي مواجهة الأخطار الدائمة المحدقة بقضيتهم وبحقوقهم كشعب. هذا لأن الاستقلالية، مرة أخرى، تبقيهم على تواصلهم الطبيعي مع «فلسطين» فلا يتوهون في أزمة الخلافات المحلية... والعربية.
"السفير"

التعليقات