31/10/2010 - 11:02

في بسماركية المثقفين../ د. عبدالإله بلقزيز

في بسماركية المثقفين../ د. عبدالإله بلقزيز
من المثقفين العرب من يقترن عندهم معنى التوحيد الوطني (والقومي) بالإدماج القسري للجماعات والمناطق المختلفة في الكيان الجامع. وبعضهم لا يكتفون بالنظر إلى فعل القسر في جوانبه السياسية والقانونية، بما هو مجموع الإجراءات التي تتخذها الدولة لتكوين مجال وطني (أو قومي) جامع وموحد وتفرضها على جميع رعاياها بمن فيهم من ليسوا يرغبون في الوحدة، بل يتفهمون (المثقفين أعني) أن تلجأ الدولة إلى أنماط من القسر أشد كاستعمال العنف لبناء الوحدة. وغالباً ما يجدون لأنفسهم ما يبررون به موقفهم هذا من قبيل الهدف الأسمى والمصلحة والتضحية بالجزئي من أجل الكلي وما في معنى ذلك، فإذا كان التوحيد هدفاً جليلاً لشعب أو أمة لا قيام لهما ولا استمرار من دونه، فلا يجوز إسقاطه أو تعطيله، متى ما توافرت إمكانيته بدعوى انه يصطدم مع مصالح فئات ما في المجتمع غير راغبة فيه، وإذا لم يكن ممكناً تحقيقه إلا بواسطة القسر والإكراه، فليكن ذلك طلباً لفوائده ومن دون التفات إلى مضاعفاته الجانبية.

لكن المثقفين أولاء لا يعبرون في هذا الشأن عن موقف خاص بهم، أي كمثقفين عرب، وإنما يحرصون على بيان اتصال هذا الموقف بحصيلة تجارب التوحيد القومي في التاريخ الإنساني الحديث، وهي تجارب كشفت عن الأثر الكبير الذي كان لدينامية العنف فيها، وفي تمكينها من التحقق التاريخي في عقل كل مثقف، من المتمسكين بهذه الرؤية طيف نابليون أو بسمارك أو غالباردي ومثال عمليات التوحيد في أوروبا وفي أمريكا الشمالية. إنها النموذج المرجعي الكوني ولا نموذج غيره، ومن يدعو العرب إلى عدم نهج السبيل عينه الذي نهجته أمم العالم وشعوبه في هذا المضمار، إنما يدعوهم إلى تعطيل فريضة التوحيد: إن على الصعيد القومي العام أو على الصعيد القطري (الوطني) الخاص، هكذا لسان حاله يقول وهو يتحجج بسوابق التاريخ مفحماً خصمه من المتشككين والمثبطين.

وليس ثمة ما يدعو إلى التشكيك في صحة أسانيده التاريخية إذا كان ثمة ما يدعو إلى التشكيك في وجاهة دعواه وموقفه، إذ لا مرية في أن تجارب التوحيد القومي الإنسانية تدلنا على ما كان فيها من كبير أثر لدينامية القسر والعنف، فما كاد وطن أو كيان قومي يقوم إلا من طريق الإخضاع المسلح، إخضاع مركز الكيان لأطرافه واستدخالها تحت سلطانه. هكذا قامت الدولة- الأمة في القرن التاسع عشر: عصرها الذهبي، وعلى هذا المنوال استوت نظريات التوحيد القومي في الفكر السياسي الحديث التي نهل منها المفكرون والقوميون والوطنيون العرب، غير أن الذي يتجاهله المدافعون عن هذه الرؤية أن تلك التجارب وليدة حقبة من التاريخ الإنساني محكومة بظروفها الزمنية وبشروطها المكانية ولا تمثل مختبراً علمياً لإنتاج قوانين عامة وشاملة للتوحيد القومي، على نحو ما افترض ذلك نديم البيطار مثلاً، وان محاولات التوحيد القومي- في القرن العشرين- أفرجت عن إمكانات ووسائل أخرى غير تلك توسلتها تجارب التوحيد السابقة، وقطعاً هم يتجاهلون سمة العصر اليوم (منذ الحرب العالمية الأولى وخاصة منذ خمسينات القرن العشرين) وهي صيرورة الديمقراطية وسيلة رئيسية في بناء الكيانات القومية وفي فرطها أيضاً أو في توسيعها إلى منظومات إقليمية.

من المؤسف أن التمسك بهذه الرؤية البسماركية لعملية التوحيد، من قبل قطاع عريض من المثقفين العرب، يسدي خدمة مجانية للنخب السياسية الحاكمة من أجل المزيد من إفساد عملية التوحيد، فهي إذ تقدم تنظيراً سياسياً لتوحيد قومي معطل منذ ما يزيد على أربعين عاماً، ولا وجود مادياً لقواه ولحوامله السياسية والاجتماعية اليوم، تضع نتائج ذلك التنظير في أيدي نخب الدولة الوطنية (القطرية) تبرر به سياساتها الداخلية الخرقاء في مضمار التوحيد الوطني، وقد تلتمس لتلك السياسات أعذارها حين يأخذها الشطط إلى اقتراف الخطيئة! ماذا يفعل بعض المثقفين العرب اليوم، حين يؤيدون سياسات النظام السوداني تجاه أهالي إقليم دارفور مثلاً، غير ذلك.

قد يقال هنا إن المثقف الحقيقي، التاريخي، الملتزم هو الذي لا يساوم على وحدة الوطن والشعب والأمة ولو كان الثمن هو التضحية المؤقتة بالحريات والديمقراطية، وان مثال هذا المثقف وجد في الغرب إبان المعارك الكبرى من أجل إقامة الدولة القومية، ولكن ماذا لو كان ثمن الدفاع عن ذلك النمط النابذ من التوحيد هو تدمير فكرة الوحدة ذاتها، هو تمزيق الشعب والوطن والدولة؟!

ليس صحيحاً أن الشكل الوحيد الممكن للتوحيد الوطني والقومي هو ذاك الذي شهدته أوروبا في عهد ثوراتها القومية في القرن التاسع عشر. وليس مما يشرف صاحب رأي أن يعتقد بأن فعل التوحيد الوطني، الذي أطلقته النخب العربية الحاكمة وقادته منذ عقود، هو الممكن الوحيد الذي تتيحه الأوضاع العربية، أو هو أفضل الممكن مما تتيحه تلك الأوضاع.

فلقد كان في وسع مجتمعات عديدة في القرن العشرين أن تنجز وحدتها الوطنية والقومية من طريق الاندماج الديمقراطي والتفاهم والتشارك في إطار دولة اتحادية، وكان في وسع أية دولة عربية- ولايزال- أن تعيد النظر في نمط التوحيد القسري، وأن تطلق ديناميات اندماج اجتماعي يجيب المطالب ويفكك التعبئة الداخلية ويطمئن سائر الجماعات على حقوقها في الوطن وفي السلطة من طريق تحقيق المشاركة السياسية.

ربما كان في عداد المسلم به أن نمط السلطة في البلاد العربية، كسلطة مستبدة، لا تسمح بغير هذا النمط من التوحيد القسري النابذ الذي يكرس غلبة جماعة كبرى على جماعات صغرى. لكن الذي ليس يقبل التبرير أن يرتضي المثقفون تأجير عقولهم وألسنتهم للدفاع عن توحيد لا يقود المجتمع إلا إلى انقسام وتذرر وحروب أهلية باسم قدسية المعركة من أجل الوحدة الوطنية. نعم هي معركة مقدسة كما الدفاع عن الدولة وبقائها ومنعتها واجب وطني مقدس. لكن الدولة التي لا تدرك أن سياساتها القيصرية تعود عليها بالمضار، وقد تهدد وجودها تحتاج إلى النقد الصريح لا إلى “الزغاريد الفكرية”.
"الخليج"

التعليقات