31/10/2010 - 11:02

في غوانتانامو يسلب الشعر ويباع!../ محمود المبارك*

في غوانتانامو يسلب الشعر ويباع!../ محمود المبارك*
يتوق كل من يطبع ديوان شعرٍ إلى المدح والثناء والحصول على عائد مادي لقاء جهده الشعري، أما من يكتب شعراً في غوانتانامو فحسبه أن ينجو من العقاب، وقد لا يسلم من الذم، وليس له أن يحصل على حقوقه الفكرية القانونية.

ديوان الشعر الذي طرح في الأسواق الأميركية يوم الجمعة الماضي، تحت عنوان «قصائد من غوانتانامو... المحتجزون يتحدثون»، دليل آخر على التجاوزات القانونية التي لم تعد الإدارة الأميركية تبالي بخرقها.

فالديوان الذي يضم 22 قصيدة لسبعة عشر سجيناً من سجناء غوانتانامو، لا يمنح «حقوق الطبع المحفوظة»، للشعراء الذين عبّروا عن مآسيهم في عدد من القصائد التي قام محاموهم بجمعها وطبعها في ديوان يحمل اسم معتقلهم. كما لم يستشر هؤلاء الشعراء في طبع ديوانهم، وتدخلت وزارة الدفاع الأميركية بغير حق، حين منعت نشر العديد من القصائد التي رأت انها غير مناسبة للنشر. ولم تكتف بذلك، بل رفضت نشر تلك القصائد باللغة التي كتبت بها، سواء أكانت العربية أم البشتونية، وقام مختصون من وزارة الدفاع بترجمتها إلى اللغة الإنكليزية. ومعلوم أن الشعر غالباً ما يفقد قيمته الفنية بترجمة معانيه.

وفي هذا يعلق دان تشيسون - الذي راجع الديوان لصحيفة «نيويورك تايمز» - فيقول: «بدلاً من «المحتجزون يتحدثون»، كان الأولى أن يكون الاسم الفرعي هذا الديوان «المحتجزون يمنعون من الكلام»!

الوضع في غوانتانامو مأسوي بكل معاني الكلمة. ومعتقل غوانتانانامو يحرك المشاعر عند كل من يقول الشعر ومن لا يقوله، ويصبح شاعراً من لم يتفوه ببيت شعر في حياته. ففي غوانتانامو سيق إلى التعذيب أناس «أبرياء» بحسب تقارير منظمات حقوق الإنسان، التي أفادت أن «جميع المعتقلين (في غوانتانامو) إما أبرياء أو أشخاص تقع عليهم مسؤولية بسيطة». فيتحرك الشعر في غوانتانامو حينما ترفض الإدارة الأميركية إعطاء المعتقلين حقوقهم الفطرية والقانونية المقررة لهم، وتقوم إدارة بوش بإهانتهم جسدياً ونفسياً، وهو أمر مخالف للمادة 13 من اتفاق جنيف الثالث 1949، الذي ينص على أن «يعامل جميع الأسرى وفي كل الأوقات معاملة إنسانية كريمة وألا يتعرضوا إلى أي إهانة من القوات المحتلة، وأن أي إهانة جسدية أو نفسية في حقهم تعتبر خرقاً جاداً لهذا الاتفاق».

ويتحرك الشعر في غوانتانامو حينما يجرد المعتقلون من جميع ملابسهم وتقيد أيديهم وأقدامهم بمسامير مثبتة في الأرض وتشغل مكيفات الهواء على أعلى مستوياتها لفترات تصل إلى أربع عشرة ساعة، ثم بعد ذلك يتعرضون لـ «المعاملة السيئة، والانتهاكات الجنسية»، بحسب شهادات المسؤولين الأميركيين أنفسهم.

ويتحرك الشعر في غوانتانامو حينما يرى المعتقلون القرآن الكريم يهان ويدنس، بوضعه في المرحاض وركله والتبول عليه، بحسب ما جاء في وثيقة مكتب التحقيقات الفيديرالية في شهر آذار (مارس) من العام الماضي.

ويتحرك الشعر في غوانتانامو، حين يخفق جمعة الدوسري الشاب البحريني، في أكثر من عشر محاولات انتحار، ليسطر مأساته في أبيات شعرية مؤلمة، يكاد القارئ يرى دموع عينيه تذرف عند كتابتها.

ويتحرك الشعر عند سامي الحاج حينما يشترط عليه الأميركيون أن يعمل جاسوساً على بلاده وشعبه لفك أسره، فيفيض شعوره في قصائد ينادي فيها ابنه بحرقة الأب الشفوق.

ويتحرك الشعر في غوانتانامو حينما يسمع المعتقلون دعوات منادية لإغلاق وصمة العار الأميركية تجيء من كل الآفاق وتشمل زعماء العالم ومنظمات إنسانية وعالمية، ولكنهم يفتقدون بين تلك النداءات الى صوت عربي أو إسلامي رسمي واحد ينادي بفك أسرهم.

ويتحرك الشعر في غوانتانامو حين لا يجد المعتقلون من يصغي إلى شكواهم، فيعاتب أحدهم البحر المحيط بجزيرة كوبا كونه حامياً لها، في معنى رائع أحسب أنه لم يسبق إليه! فيعلق على ذلك أحد الأدباء الأميركيين فيقول إن البحر هنا إنما هو تورية للشعب الأميركي لسكوته على جرائم حكومته.

وأما عن عوائد أرباح الديوان الذي يباع بقيمة 13.95 دولار للنسخة الواحدة، فقد قررت وزارة الدفاع الأميركية - التي رفضت لسنوات نشر تلك القصائد - أن تمنح لمركز الحقوق الدستورية الأميركي، كونه وفر لهم الحماية القانونية في الدفاع عنهم، على رغم أن ذلك حق دستوري منصوص عليه.

بل جرى العرف في الولايات المتحدة أن يستفيد بعض المسجونين من عوائد مادية أثناء سجنهم، إذ ليس في القوانين الداخلية ما يمنع ذلك. فلاعب كرة القدم الأميركية الشهير أو. جي. سمبسون استطاع أن يحقق أكثر من مليون دولار خلال سجنه في عام 1994- 1995، عن طريق اتصالات هاتفية قام بها المتصلون ليستمعوا إلى تسجيل صوتي له يحكي قصتة مع من اتهم بقتلها. وقام بتسجيل ذلك عن طريق محاميه وهو في داخل سجنه.

وأما عن رد فعل المواطن الأميركي على هذه القصائد، فيبدو أنها غير مشجعة في غالبها. ففي تعليقات أحد قراء الخبر الذي نشر في صحيفة «نيويورك تايمز»، كتب أحدهم «إن مجرد وجود فرصة لأولئك المعتقلين لكتابة شعرهم دليل على مناخ الحرية المتاح لهم...». ويتابع ثانٍ تعليقاً مماثلاً فيقول: «لو كان هؤلاء المسجونون في بلادهم لما نشرت أشعارهم». معلق ثالث يقول: «قبل أن أقرأ أشعارهم لست أدري ما إذا كان هؤلاء الإرهابيون أسفوا على أعمالهم الإرهابية التي آلت بهم إلى غوانتانامو»!

وحيث جاءت القصائد مترجمة لمعان كتبت بلغات أخرى، فقد لقيت نقداً أدبياً من المختصين الأميركيين واصفين الديوان بأنه لا يرقى إلى مرتبة الشعر الجيد. بل لم يسلم هذا الديوان من نقد من قام بجمع وترتيب هذه القصائد ذاته. ففي إجابته الساخرة على سؤال حول القيمة الشعرية لقصائد الديوان، قال جامع الديوان مارك فولكوف، إنني لم أجد شعر «ماندلشتم» ها هنا، في إشارة إلى الشاعر الروسي الشهير الذي توفي في سجون الاتحاد السوفياتي السابق.

وبغض النظر عن المستوى الشعري الحقيقي لهذه القصائد التي لا يمكن تقويمها إلا إذا تم نشرها بلغتها الأم، فقد يجد المعتقلون في هذه القصائد مجالاً للتخفيف من مآسيهم التي زاد بها الكيل ففاضت بها قرائحهم الشعرية.

وقد يجد الشعراء المعتقلون تسلية في تجربة أبي فراس الحمداني الذي كتب أجمل شعره في معتقلات الروم، أو قد يجد بعضهم تسلية في سيد قطب الذي كتب قصائد وألف كتباً في سجنه، ولكن لن يجد أي من هؤلاء تسلية في حقوقهم الفكرية المسلوبة التي بيعت في الأسواق كما يباع العبيد في سوق النخاسة. ولا غرابة أن تسلب حقوقهم الفكرية، فقد سلبت حقوقهم الإنسانية من قبل!

"الحياة"

التعليقات