31/10/2010 - 11:02

كوندوليزا رايس وفلسطين والواقعية الأميركية الجديدة../ د.خالد الحروب*

كوندوليزا رايس وفلسطين والواقعية الأميركية الجديدة../ د.خالد الحروب*
في مقال مطول ومهم في آخر عدد من دورية (فورين أفيرز) "شؤون خارجية، تموز ـ آب) تضع كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية إطاراً لـما تسميه "الواقعية الأميركية لعالـم جديد: إعادة التفكير في الـمصلحة القومية".

في الـمقال استعراض نظري ومفيد لآليات التفكير السياسي الأميركي وانخراط السياسة الأميركية في مناطق العالـم، والتنظير لواقعية تحاول الـمزج بين الـمصالح الأميركية ومبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان. وهذا الـمزج، أو محاولة تحقيقه، هو التحدي الكبير الذي واجه كل سياسة خارجية أميركية وغربية منذ عقود، سواء أكان الـمزج الـمُعلن عنه صادق النية أم كاذبها. ومن هنا فإن كانت "الواقعية الجديدة" تعني التركيز على محاولة تحقيق ذلك الـمزج فليس فيها من "جدة" على الإطلاق. لكن بعيداً عن دقة العنوان تبقى مضامين ما كتبته رايس في غاية الأهمية.

طبعاً، يمكن أن تُقرأ مقاربة رايس وخاصة في مثل هذا التوقيت قبيل الانتخابات الرئاسية على اعتبار أنها إعادة تقديم طلب للـمرشح الجمهوري جون ماكين لاستمرار اعتماد رايس وزيرة للخارجية في حال نجاحه. فهي هنا تقدم له أوراق اعتماد ونظرة شاملة لـما تراه من سياسة أميركية خارجية.

كما تتفادى نقاش بعض الأفكار التي يتحمس لها ماكين لكن يبدو أنها غير متحمسة لها، وخاصة فكرة إنشاء رابطة للديمقراطيات. يصعب مناقشة أو حتى تلخيص مقالة رايس في سطور سريعة، لذلك ورغم الـمخاطرة بالابتسار والانتقائية فمن الـمفيد التوقف عند رؤيتها للسياسة الخارجية الأميركية إزاء الشرق الأوسط وخاصة قضية فلسطين.

تقول رايس: "لعدة عقود ركزت السياسة الأميركية بشكل شبه حصري على الاستقرار. وقد كان هناك حوار قليل، وبالتأكيد لـم يكن حواراً علنياً، حول الحاجة إلى تغيير ديموقراطي ... لفترة ستة عقود وتحت الإدارات الديمقراطية والجمهورية (في البيت الأبيض) كانت هناك مقايضة أساسية حكمت انخراط الولايات الـمتحدة في الشرق الأوسط الكبير وهي دعمنا للأنظمة السلطوية مقابل دعم تلك الأنظمة لـمصالحنا الـمشتركة في الاستقرار الإقليمي.

لكن بعد الحادي عشر من أيلول صار من الواضح بشكل متزايد أن هذه الـمقايضة القديمة أنتجت استقراراً زائفاً. فلـم يكن هناك أية قتوات شرعية للنشاط السياسي". والواقعية الجديدة بمنظور رايس هي التركيز على الدمقرطة، وخاصة في الشرق الأوسط، كمكون للسياسة الخارجية الأميركية. لكنها لا تقول لنا حجم ذلك الـمكون الحقيقي إزاء الـمصالح والـمكونات الأخرى.

تبرز رايس ثلاث تحديات أساسية تواجه الولايات الـمتحدة في الشرق الأوسط وهي على الترتيب: "مواجهة التطرف الإسلامي"، "إيران"، و"إنهاء الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين". تستخدم رايس تعبيرات صارمة وحازمة إزاء التحديين الاولَين، لكنها تتبنى لغة ناعمة إزاء التحدي الثالث لأن إسرائيل طرف فيه. مشكلة رايس كما هي مشكلة السياسة الأميركية الحالية (والـماضية دوماً) هي في عكس الأولويات والهروب من السؤال الأساسي حول مركزية قضية فلسطين في الشرق الأوسط وأن عدم حلها سيظل منتجاً لأنواع متلاحقة من التحديات وردود الأفعال.

كيف ستواجه رايس تحدي التطرف الإسلامي الذي يعتاش على بيئة معبأة بالنقمة والغضب على السياسة الأميركية بسبب تجاهلها للتطرف الإسرائيلي وتغوله الدائم وانتقال نظامه الاحتلالي إلى نظام عنصري الآن؟ بدل أن تضع تحت بند رقم واحد من الأولويات "إنهاء الاحتلال الإسرائيلي" (وليس إنهاء الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين) اختارت أن تضع هذا "التحدي" في ذيل قائمة الأولويات، بما يعني أن الجهد والوقت والتفكير والسياسة ستكون مصوبة على الأولويات الأولى وما يتبقى من جهد يُخصص للـمسألة الفلسطينية. وكلنا يعلـم أن هذه التراتبية تعني سياسة لا تدخلية بمعنى "تشجيع الأطراف" على العمل على إنهاء الصراع، وليس التدخل القوي والحاسم لإنهائه كما هو قائم في الأولوية الاولى والثانية.

تقول رايس إن التنمية الديمقراطية تحتل قلب الـمقاربة الأميركية لحل الصراع الإسرائيلي ــ الفلسطيني. وتفسر ذلك بالقول بتولد قناعة عند الإدارة الأميركية مفادها "أن الإسرائيليين لن ينعموا بالأمن الذي يستحقونه في دولتهم اليهودية (لاحظ استخدام تعبير يهودية الدولة)، وأن الفلسطينيين لن يحصلوا على حياة أفضل يستحقونها في دولة لهم من دون وجود حكومة فلسطينية قادرة على ممارسة مسؤولياتها السيادية إزاء مواطنيها وإزاء جيرانها".

في هذه الفقرة الـمركزية من مقالة رايس هناك الكثير ليس من التناقض وحسب في مسألة الدمقرطة برمتها، ولا فقط الانحياز التقليدي لإسرائيل بل الاقتراب من حدود العنصرية.

عندما تركز رايس على الـمدخل الديمقراطي لحل القضية الفلسطينية وتضع الفلسطينيين تحت طائلة الـمسؤولية التاريخية لإنتاج شكل سياسي يحقق أمن إسرائيل، لا تتورع عن الانزلاق لتأكيد "يهودية الدولة" الإسرائيلية بما يتناقض مع أية رؤية أو منطلق ديمقراطي أياً كان. كيف تكون إسرائيل ديمقراطية ويهودية في آن معاً؟ لـماذا تريد رايس من الفلسطينيين أن يكونوا ديمقراطيين وتجعل شرطهم الديمقراطي أولياً لإنهاء الصراع، فيما تقبل عنصرية إسرائيل وعدم كونها دولة لكل مواطنيها أولاً، ثم كونها تؤسس نظاماً عنصرياً في الضفة الغربية يقوم على الـمؤسسة الاستيطانية الـمخيفة؟ بل لـماذا لا تشير رايس لا من قريب ولا من بعيد إلى الـمستوطنات والـمستوطنين أساساً؟ فعندما تذكر بشكل سريع أن الدولة الفلسطينية يجب أن تنشأ عبر الـمفاوضات حول القضايا الصعبة مثل الحدود واللاجئين ووضع القدس، فإنها تسقط الـمستوطنات التي تنخر في أرض الضفة الغربية والتي ما عادت تسمح أساساً بقيام تواصل جغرافي فلسطيني يتيح قيام دولة أو دويلة.

ليس ما سبق معناه رفض الـمدخل الديمقراطي لتأسيس نظام سياسي فلسطيني فعال، ولا الدفاع عن أي شكل سلطوي غير ديمقراطي في الحكم. لكن هناك تقديم للعربة قبل الحصان في الـموضوع الفلسطيني يهدف إلى ديمومة وضع الفلسطينيين منذ سنة 1993 وحتى إشعار آخر في موقع الدفاع عن النفس وإثبات الأهلية والكفاءة كي يستحقوا ما تتفضل إسرائيل بمنحه لهم. عليهم أن يثبتوا أنهم "شركاء" وأنهم قادرون على اجتياز قائمة دائمة الاتساع من الشروط والاختبارات التي تضعها عليهم إسرائيل والولايات الـمتحدة حتى يحصلوا على الحد الأدنى من حقوقهم. ومرة أخرى هناك شبهة عنصرية في مثل هذا الاشتراط لأن الحقوق ليست مناطة بـ "حسن السلوك" فالأولى سابقة على الثانية فلسفياً وإنسانياً وسياسياً. لكن ما سبق يشير إلى معالجة مُستفزة من قبل رايس، والتي تعتبر الأكثر عقلانية في الإدارة الأميركية الـمتطرفة الحالية، وهي معالجة لـم تذكر لفظة "الاحتلال الإسرائيلي" ولا مرة واحدة، ولـم تذكر "معاناة الفلسطينيين" ولا مرة واحدة، ولا أن حقوقهم الإنسانية والديمقراطية منتهكة من قبل الدولة الـمحتلة ولا مرة واحدة. ما شغل بالها هو مطالبة الفلسطينيين بأن يكونوا ديمقراطيين وأن لا يختاروا التطرف (حماس)، وغاب عنها أو تجاهلت أن بلدها وإسرائيل يخلقان ظروفاً في فلسطين لا تؤدي إلا إلى نتيجة واحدة وهي استقواء التطرف الذي ربما يبرز عما قريب على شكل "القاعدة" التي تسيطر على التفكير الأميركي الجديد وتسيسه وتحتل مرتبة التحدي الأول عنده.

في التمهيد للتحديات الثلاثة التي تراها رايس تواجه الولايات الـمتحدة في الـمنطقة (التطرف الإسلامي، إيران، إنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني) تعدد رايس الـمصالح الحيوية لأميركا في الشرق الأوسط وهي التالية: أمن الطاقة، عدم انتشار الأسلحة النووية، الدفاع عن الحلفاء والأصدقاء، حل الصراعات القديمة، وأهم من ذلك كله الحاجة إلى شركاء لـمواجهة التطرف الإسلامي. لن تنجح أية سياسة أميركية طويلة الأمد في الـمنطقة في الـمحافظة بالسلـم والديمقراطية على أي من تلك الـمصالح ما لـم يتم اعتبار "إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وإقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة" كواحدة من الـمصالح الحيوية الأميركية في الـمنطقة. عندها، وبعد تحققها فقط، يمكن لتنظير رايس حول بناء علاقات صحية بين الولايات الـمتحدة والشرق الاوسط أن يجد أرضاً تستجيب له.
"الأيام"

التعليقات