31/10/2010 - 11:02

كي تكون آخر الأزمات الوطنية../ د.سليم الحص

كي تكون آخر الأزمات الوطنية../ د.سليم الحص

درجنا على القول إن تعرّض بلدنا لأزمات وطنية متعاقبة لهو شاهد على أن نظامنا ليس ديمقراطياً، على وفرة الحريات فيه، فالأنظمة الديمقراطية الأكثر تطوراً في العالم لا تعرف الأزمات الوطنية، إنها تشهد مشكلات وقضايا يومياً، ولكن أياً منها لا تنفجر أزمة وطنية، فكلها تلقى الحل الناجِع لها عبر المؤسسات بالوسائل الديمقراطية. فهل لنا أن نتطلع إلى مخرج من حالنا الحاضرة؟ بعبارة أخرى، هل لنا أن نرنُو إلى الانتقال من نظام لاديمقراطي إلى نظام ديمقراطي، في منعة من الأزمات الوطنية الحادّة؟ هل لنا أن نعلل النفس بأن الأزمة الوطنية التي ما برحنا نعيشها منذ صدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي ثم تمديد ولاية الرئيس العماد إميل لحود كانت آخر الأزمات الوطنية التي نتعرض لها؟

الانطباع العام أن لبنان، بانتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، ولج باب الانفراج من الأزمة الوطنية. فهل يكون عهد الرئيس سليمان عتبة الانتقال من حال إلى حال، بحيث لا يشهد لبنان بعد اليوم تكراراً للأزمات الوطنية؟ هذا الطموح سوف يتحقق إذا أفلح الرئيس سليمان في نقل البلد من اللاديمقراطية إلى حال الديمقراطية ولو في حدودها الدنيا.

هذا التحول لن يكون من دون مخاض، وللمخاض أوجاعه. لعل عهد الرئيس الجديد الواعد سيكون كلّه بمثابة مرحلة مخاض في هذا الاتجاه بإذن الله. وقد تكون بداية العهد طلائع بعض الأوجاع والتي ستظهر عبر تشكيل أول حكومة في العهد الجديد. فمن المتوقع ألا يكون العبور يسيراً في التوافق على رئيس للوزراء ثم على توزيع الحقائب بين الفريقين المتخاصمين وبين الطوائف والمذاهب، وشيء من العسر قد يعتري عملية اختيار أسماء الوزراء، ناهيك بالاتفاق فيما بعد على مضمون البيان الوزاري. أول المخاض سيكون إذاً في تأليف أول حكومة.

إذا ما اجتزنا هذه المرحلة فلسوف تكون السنة الأولى من العهد الجديد مرحلة مخاض نحو التحول المنشود. والسنة الأولى هي عهد الحكومة الأولى، إذ يرتجى أن تتوّج هذه السنة بانتخابات نيابية جديدة ترحل الحكومة الأولى حكماً معها، فتأتي حكومة جديدة تكون صورة عن المجلس النيابي العتيد.

إذا كتب للسنة الأولى أن تكون مرحلة مخاض، كما يراد لها أن تكون، فمن المفترض أن تكون مرحلة إرساء قواعد الديمقراطية الحقّة. ويكون ذلك عبر استيلاد قانون انتخاب جديد يؤمّن فرص التمثيل الشعبي الصحيح ويفتح باب المساءلة والمحاسبة في الحياة العامة بدءاً بمحاسبة الناخب، أي المواطن، للنائب أي من يمثله في نظام الحكم. ومن شروط المحاسبة وجود برامج انتخابية يخوض المرشحون بها معاركهم، وهذا يفترض تنمية محسوسة في الحياة الحزبية أو شبه الحزبية، عبر التكتلات السياسية والنيابية. آن الأوان لإحلال العقائد والأفكار والبرامج والمناهج في صنع القيادات السياسية محل العشائرية الموروثة والمال السياسي ومعه التسلح بأدوات القتل والدمار.

إن وجود البرامج شرط ضروري ولكنه غير كافٍ لتنمية روح المساءلة والمحاسبة. فالنائب إنما يحاسب في أدائه على مدى ما التزم تحقيقه بما ينطوي عليه البرنامج من وعود وتطلعات. ولكن المحاسبة لا تضحي حقيقة مُعاشة إن لم تقترن بثقافة ديمقراطية تتجلى في وعي المواطن مسؤولياته حيال مجتمعه وإيمانه بأنه، في صوته ورأيه، قادر على أن يكون فاعلاً في صوغ مسار الحياة العامة. ومثل هذه الثقافة لا تتنامى في ظل طغيان المشاكل والهموم الحياتية والمعيشية. فالثقافة الديمقراطية رائدها قضية، هي خير المجتمع، ولن تتكامل مقوماتها ما دام أبناء المجتمع منشغلين بشجونهم وهمومهم عن قضاياهم. فالثقافة الديمقراطية تفترض انعتاق المواطن من براثن العوز والبطالة والجهل والمرض. الشباب اللبناني رفض حال العوز والبطالة، تحت وطأة الأزمات الوطنية المتعاقبة، فهجر وطنه.

أرتال من شباب لبنان غادرت البلاد إلى الجوار العربي، وبعضها إلى بلاد الاغتراب الأبعد، سعياً وراء الرزق الحلال. فخسر الوطن برحيلهم طاقات إنتاجية فاعلة وواعدة. إلا أن هجرة هؤلاء من ناحية أخرى كانت نعمة للبلد، فبدلاً من أن يبقى هؤلاء في بلدهم عالة على مجتمعهم في ظل البطالة المستشرية غدوا مصدراً لسيل من الدخل للبلد عبر ما يبعثون لذويهم في لبنان من جني أيديهم في الخارج. وكان هذا من العوامل التي حالت دون بلوغ الأزمة الوطنية مرحلة الانهيار الحقيقي اقتصادياً واجتماعياً. ومن تلك العوامل أيضاً الفورة النفطية الاستثنائية التي حصلت بارتفاع أسعار النفط التي عادت على الأقطار العربية المنتجة بفوائض هائلة أصاب لبنان منها رذاذها، فكان الرذاذ كافياً للإسهام في درء خطر الانهيار عن البلد الصغير.

السنة الأولى من العهد الرئاسي الواعد إذاً يجب أن تكون حافلة بالعمل المنتج: على صعيد تطوير نظام انتخابي صالح كما على صعيد التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك، وهذا من الأهمية بمكان عظيم، جلاء صورة الدولة في منظور المواطن بحيث يعود إلى الرهان عليها في بناء مستقبله. وهذا يفترض القيام بإصلاح شامل يكون من مفاعيله القضاء على آفة الفساد المستشري وتعزيز فعالية الإدارة. ونحن نرى أن الإصلاح يكون شاملاً أو لا يكون. إلا أن المدخل الطبيعي إلى الإصلاح الشامل هو الإصلاح السياسي وأن مفتاح الإصلاح السياسي هو في قانون انتخاب صالح. ونحن نرى، خلافاً لما نص عليه اتفاق الدوحة، أن أفضل نظام انتخابي هو ذاك الذي يُبنى على الدائرة الانتخابية الأوسع، كالمحافظة، وعلى قاعدة التمثيل النسبي. فاعتماد القضاء من شأنه إنتاج تمثيل نيابي يغلب عليه الطابع الطائفي والمذهبي، وهذا يتعارض مع أبسط مقومات الإنقاذ المنشود للبنان. ومن المفترض أيضاً أن يتضمن الإصلاح الانتخابي نصوصاً تحيّد عامل المال السياسي في صنع النتائج الانتخابية، وذلك بتحديد سقف للإنفاق الانتخابي واستحداث آلية لمراقبة إدارة العملية الانتخابية والإنفاق الانتخابي، وكذلك تنظيم الإعلام والإعلان الانتخابيين.

العهد الجديد على المحكّ في مواجهة تحديات جسيمة، والمطلوب منه كثير تحت عنوان كبير هو نقل البلاد من حال لاديمقراطية مع وفرة الحريات فيها إلى حال من الديمقراطية الفاعلة، ترجمة للحريات التي ننعم بها. عسى أن تكون الأزمة التي عصفت بِنا مؤخراً آخر الأزمات الوطنية التي يتعرض لها مجتمعنا.
"الخليج"

التعليقات