31/10/2010 - 11:02

لسنا جثة حية!../ نصري الصايغ

لسنا جثة حية!../ نصري الصايغ
ـ I ـ
يحيلنا المشهد العربي إلى مسرحية وجدي معوّض: «الشاطئ»: البطل، جثة رجل تبحث عن مكان لتدفن فيه.. عبقرية المخرج معوّض، أبدعت جثة تحبها.. تنبت الأعشاب من تحت إبطه، بالقرب من فمه، من خلف أذنيه، ولا تشمئز منها.. جعلنا معوّض نشفق على جثة حية، سعادتها في موتها، وشقاؤنا في بقائها.

المشهد العربي على امتداد الربع العربي الخالي، ليس نص مسرحية، بل هو واقع يقتحم الحياة العربية الرتيبة، الكسولة، المتواطئة، اللامبالية، الخسيسة، المصابة ببطر الاستهلاك والخسائر، الممتهنة عبادة الامتهان والاطمئنان إلى لذة المذلة، المعتاشة من فائض الرذائل السياسية، وتلويناتها الطائفية والمذهبية والأقوامية، والمسترسلة في البقاء، كأن شيئاً لم يكن... طبعا، ولن يكون شيئاً ذلك الذي لم يكن.

الجثة العربية المهترئة تثير حزناً وقرفاً. انها جثة مزدهرة تطالب بالمزيد من الحياة، وهي في ذروة التحلل. لبنان كان على وشك التآكل لولا... العراق في قاع التحلل، ولا يزال... الصومال، رحمها الله حية ترزق في موتها... السودان على الشفير منذ ربع قرن... اليمن، دخلت الجحيم بأقدامها. يزيدية، وحوثية، وشمالاً، وجنوباً، وحراكاً.. المغرب مؤهل دائم لصمت فصيح.. الجزائر مشغولة برئيس عجوز، كان ذات عقد، ثم، لم يكن... تونس، تؤهل نفسها لكهف سياسي، منقطع الأوصال... ليبيا على دين قذّافها، كفرت بالعروبة وفلسطين، ولم يبق لها، سوى سواد السياسة. (مع ضرورة إعفائي من عنصرية التشبيه)، أما مصر... فيكفيها أنها تعتاش من «موت غزة»، وتقيم «التراويح» لوراثة مبهمة.
دم يرث دماً..
ثروات تعيث خراباً.
حياة... بحاجة إلى القبض عليها، وسوقها إلى القبر.

ـ II ـ
نظلم المشهد العربي، إذا رأينا فيه فقط، هذا التحلل المزمن، المفرط في فتكه.. نعتدي على الواقع إذا كنا اكتفينا بنظرة مختصرة، ترى إلى السياسة من زاوية السلطات العربية.. هذه السلطات، دفنت الدولة وجعلت المؤسسات ركاماً وأنشبت في جسد الأمة أظافرها الأمنية.. وحدها هذه الأظافر، حية تفتك بالجسد النبيل، لهذه الأمة.

السياسة العربية من فوق، عارية من قوامها العربي، خذلانها، هو قضيتها التي تدافع عنها. صمتها عن الحق القومي والوطني والجماهيري، هو لغتها. لا تناشد أو تتحرك أو تفعل، إلا إذا ارتأى الأميركي أو الإسرائيلي لها حراكاً.. هي مع السلام، بلا سلام. هي مع أميركا ظالمة وظالمة. (لأن أميركا ليست مظلومة). وهذه السلطات، لم يبق لها من شرعية، سوى شرعية القبض على أعدائها المحتملين من مؤيدي فلسطين، أو رغيف الخبز، أو جبين الكرامة، أو الرغبة بقولة حق.

السياسة العربية من فوق، هي هذه وأكثر. ولكنها، ليست كل الواقع العربي. فهذه السلطات تنتمي إلى الهزيمة وترتع بنعيمها، دعماً أميركياً، ورضى إسرائيلياً، ونهباً لثروات الأمة.

ـ III ـ
في الجانب الآخر من المشهد، وخارج السلطة تحديداً، سياسة من نوع آخر.. سياسة تحاصرها وسائل الإعلام.. هي طريدة الأنظمة العربية ومعرّضة لاعتداءات على صورتها لتشويهها، مرة لأنها مغامرة، مرة لأنها مرتبطة، مرة لأنها متآمرة على الأمن القومي، مرة لأنها ليست برضى الدولة، ومرة لأنها تهدد السلم الوطني وتنتهك حرمة التنمية والعمران.

في الجانب الآخر من المشهد العربي، ما يستحق ترصيد الأمل عليه. فإذا كان المشهد الرسمي، لا شفاء منه ولا رجاء له، فالرهان على السياسات الملتصقة بفلسطين، كلاماً ودماً، والمتحسسة لقضايا الشعوب العربية، موقفاً وتأييداً، يستحق المجازفة.

لا أمل في أنظمة التخلي، وسلطات التحلل الوطني والقومي والأخلاقي. لا شفاء لأنظمة اختارت أن تتعامل فقط بكل صدق، مع الرشوة والفساد والإفساد والقمع والسجن. لا أمل في مجموعات تحرض على التذابح باسم الدين أو العرق وترفع لواء الدين في مناسبة وفي غير مناسبة، إلا في فلسطين.. ولا أمل من أحزاب قومية ويسارية، باتت فُرجةً، وليس من ينصحها أن تدخل زاوية المتاحف الأثرية المهمَلة، لكثافة غبار التبلّد والغباء والانتهازية على كواهل قياداتها، لا قواعدها الطيبة والبريئة.

ـ IV ـ
إذاً، ينقسم العالم العربي إلى عالمين، يعيشان في كوكبين:
الأول، تقيم فيه جثة النظام العربي الرسمي...
الثاني، تتولد فيه أجيال فتية، قبلتها فلسطين. صلاتها طقس حرية، وزكاتها دم يبشر بالقدس، وصليبها على وشك القيامة. والمقاومة في لبنان وفلسطين نموذجاً.

بوضوح أكثر: المستقبل العربي، لن يبقى رهينة قوى السلطات القائمة أو من يرثها، بل هو وليد مشروع المقاومة، مترجمة في السلاح ذي الصراط المستقيم، الذي يحرّم الاقتتال الداخلي، ويحلل فقط، الدفاع وقتال العدو.. ومترجمة أيضاً، في الثقافة والإعلام والإنتاج، والمنفتحة، (ولو كان الانفتاح بحاجة إلى معجزة لا دينية تحاذي الخروج... ما همّ!). ومترجمة كذلك في بلورة مشروع وطني يحتضن الراغبين والمؤمنين والذين ما زالوا، رغم يأسهم من حاضر أمتهم، يربّون أملاً، ويخافون عليه من التجاهل.
بلى! يصح في هذا المقام ان نردد، بأن منَّا من هو من «خيرِ أمة».

اذاً: لا بد من تصويب اللغة. وإعادة الحياة إليها.. جدير ما لدينا من قوة ومقاومة وثقافة متحدية وإيمان قوي وقضايا عادلة، أن ندرب اللغة على غير الوقوف على أطلال النظام العربي للبكاء عليه. لغتنا جديرة بأن نقلبها رأساً على عقب، تماماً، كما فعل أبو النواس، مع تحريف ضروري.
عاج الشقي على رسم يُسائله
وعجتُ أسأل عن وطنٍ وعن بلدِ.
"السفير"

التعليقات