31/10/2010 - 11:02

لماذا يعجز لبنان عن حل أزماته بنفسه؟../ عبد الاله بلقزيز

لماذا يعجز لبنان عن حل أزماته بنفسه؟../ عبد الاله بلقزيز
بعث مشهد الحضور العربي والدولي في جلسة انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية ارتياحاً في النفس بمقدار ما بعث على الشعور بالخشية والخوف في الآن عينه. فهي المرة الأولى التي يحتشد فيها هذا الكم الهائل من قادة الدول ورؤساء حكوماتها ووزراء خارجيتها وزعماء المنظمات الإقليمية في مبنى تجرى فيه انتخابات رئيس دولة. وهي المرة الأولى التي تحظى فيها انتخابات من هذا النوع بهذا القدر الذي أوحى وكأننا أمام مؤتمر دولي. ثم إنها المرة الأولى التي نكتشف فيها "معنى لبنان" بالنسبة الى العرب والعالم ومعنى أن يكون موطناً للتنازع والتجاذب والصراع بين قوى الأرض جميعاً، وموطناً لكل هذا "الحب": ومِنَ الحب ما قتل.

ما يبعث على الارتياح في المشهد ذاك أن الاحتشاد العربي والإقليمي والعالمي على أن تسوية الدوحة تحظى بالتأييد والمباركة من قبل القوى الخارجية العاملة على ساحة لبنان مباشرة أو من وراء حجاب، وأن هذه القوى سلّمت ولو الى حين بأن للبنان أن يتمتع "بهدنة سياسية" جديدة بعد طول نزيف. ويقع ضمن هذا الشعور بالارتياح رؤية الصراع العربي العربي على لبنان يخلد الى راحة وخمود في المرحلة المقبلة بما يساعد اللبنانيين على إدارة شؤونهم بعيداً عن مطالب الحلفاء والأصدقاء وخاصة تلك التي تدعوهم الى إجابتها من طريق صِدام بعضهم مع بعض. والأهم في ذلك المشهد أن التسوية الداخلية بات عليها شهود لا يمكن نقض شهادتهم من طريق تحلل اللبنانيين من أحكامها (التسوية) عندما تقتضي مصلحة قسم منهم ذلك على ما درجوا عليه في سوابق الماضي.

غير أن في هذا الاحتشاد ما يخيف أيضاً. فربما أوحى، من وجه، باجتماع وصايات خارجية لا تدور آلة السياسة والاقتصاد والحياة في لبنان من دون زيتها ولا يستقيم اشتغالها وانتظام أمرها من دون تعهدها إياها بالصيانة. وربما أوحى بأن اتفاق اللبنانيين في ما اتفقوا عليه في الدوحة وبدأوا تنفيذه في جلسة المجلس النيابي في الخامس والعشرين من مايو 2008 هو من اتفاق من صنعوا اتفاقهم من خارج لبنان. وفي الحالين، ما أكبر السؤال الذي سيخرج من أحشاء الإيحاءين: ماذا لو اختلف الأوصياء ثانية؟ هل سينفرط عقد اتفاق اللبنانيين بالتّبعة؟

ما أغنانا عن القول إن لبنان ظل، باستمرار، ساحة مفتوحة أمام النفوذ الدولي والعربي، فكان لكل قوة خارجية حصة فيه تزيد أو تنقص تناسباً مع حجم تأثيرها في نسيجه الداخلي، ومصلحة تعظم أو تتواضع تبعاً لعوامل التاريخ والجغرافيا وأحكام القدرة الاستراتيجية. ولعله البلد الأكثر هشاشة في العالم كله أمام التأثيرات الخارجية. ولقد يكون لنمط تكوين الاجتماع السياسي فيه، ولنظامه السياسي التوافقي القائم على المحاصصة الطائفية، الأثر الحاسم في إضعاف نسيجه الداخلي أمام تلك التأثيرات الخارجية، على الأقل لأن أية قوة اجتماعية من عصبياته تبحث لنفسها عما يوطد مركزها الداخلي من حمايات أجنبية. غير أن الذي ليس يقبل التجاهل أن نُخبه وسياسييه هم، في المقام الأول، من يفتحون الداخل اللبناني أمام تأثيرات الخارج، ويتبرعون لها بوطن ساحة للنفوذ، وفي جملتهم من لا يُحرجه أن يتباهى بارتباطاته الخارجية! وحين يختلف اللبنانيون ويتصارعون، يعجزون من تلقاء أنفسهم عن تسوية أزماتهم لأنهم ما تعودوا التعويل على تفاهمهم الداخلي، ولا طرحوا عنهم فكرة ولاء أي منهم لمركز خارجي.

منذ نصف قرن، أعني منذ الثورة على نظام الرئيس كميل شمعون، وما أعقبها من معارك أهلية وأزمة سياسية حادة (1958)، حتى انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية (25/5/2008)، لم يفلح اللبنانيون في تسوية أي من الأزمات والصراعات التي نشبت بينهم (وما أكثرها). كانوا دائماً في حاجة الى مَن يقضي في ما شجر بينهم!

هكذا بدأت تسوية أزمة العام 1958 التي أتت بفؤاد شهاب رئيساً توافقياً بين عبدالناصر والولايات المتحدة. وهكذا كان "على الوثيقة الدستورية" أن تخرج في عز أحداث الحرب الأهلية بإيعاز سوري وأن تفشل بأيدي اللبنانيين. ثم كان على نتائج حرب الجبل أن تدفع نحو رعاية سورية سعودية لحوار وطني في لوزان، مثلما كان على حوار جنيف الذي أعقبه أن يكون برعاية الراعيين العربيين. أما "الاتفاق الثلاثي"، فما كان ممكناً بين خصوم اقتتلوا أشد قتال إلا بهندسة سورية. ثم جاء "الطائف" يضع حداً للحرب بعد اتفاق الرعاة عليه (سوريا، السعودية، الولايات المتحدة). حتى الخلافات والصراعات التي كانت تندلع بين أركان الحكم، خلال عهد الطائف، ما عولجت إلا بتدخل أو بوساطة الراعي السوري للعهد.

في كل مرة يختصم اللبنانيون ويتشاجرون فتجري بينهم دماء وتتعمق الأحقاد والجروح النفسية، فيأتي العرب ولو متأخرين.. كعادتهم إليهم يسوقونهم الى تسوية يرعوي بها جنونهم الجماعي. وحين يتفقون، يقوم بينهم من يقول إن التسوية مجحفة وقسمة السلطة والمنافع ضيزى فتبدأ التعبئة من جديد، وهكذا حتى موعد أزمة جديدة: تبدأ ثم تستفحل ثم تنقلب اقتتالاً.. إلخ.

حين بدأ الحوار الوطني اللبناني في مطلع العام 2006 في البرلمان، استبشرنا خيراً بإمكانية نجاح اللبنانيين هذه المرة في بناء تفاهم وتوافق بينهم لأول مرة في تاريخهم، أي بعيداً عن رعاية شقيق أو صديق أو وصي. كانت قياداتهم تبدو متحلقة حول مائدة الحوار الداخلي وكأنها قد نضجت بما يكفي لأن تكون عن حلفائها الخارجيين في غناء، وأن تصغي لنداء بناء الوطن. وقد زاد من معدل الإيحاء بهذا الانطباع أن حوارها كان عميقاً وتناول قضايا خلافية في غاية الحساسية منها سلاح المقاومة وعلاقته بالدولة. غير أن هذا الحوار سرعان ما انهار. ولم يكن انهياره بسبب أن حرب تموز 2006 انقضّت عليه، فقد كان يمكن استئنافه بعد أن وضعت الحرب أوزارها. وهو فعلاً استؤنف جزئياً في مائدة الحوار الوطني في خريف العام 2006 قبل أن ينتهي الى طلاق وانقسام. أما ما تلا ذلك من دعوات إليه، من طرف رئيس المجلس النيابي، لبحث بنود "المبادرة العربية"، فلم يُبصر النور إلا بعد أن وقعت الواقعة، ولكن تحت سمع وبصر رعاة من خارج لبنان.

من يقرأ نتائج حوار الدوحة، ويقرأ سياق الأزمة قبله، لا يملك نفسه عن السؤال: أما كان في وسع القيادات اللبنانية أن تتوافق في ما بينها على ما توافقت عليه من دون أن تغادر بيروت ومن دون رعاة وأوصياء؟ لسنا في حاجة الى القول إن السؤال يفترض أن قرار هذه القيادات لبناني في المقام الأول وإلا فالاعتذار عن طرح السؤال واجب.
"الخليج"

التعليقات