31/10/2010 - 11:02

مأزق الحكومة الفلسطينية ومسؤولية "فتح"../ د.عبدالإله بلقزيز

مأزق الحكومة الفلسطينية ومسؤولية
لا يستقيم أي نقد للأداء السياسي لحركة “حماس”: أثناء خوض الانتخابات وخلال مفاوضات تشكيل الحكومة وفي سياق ممارسة المسؤولية الحكومية، إلا متى ترادف مع نقد نظير لقوتين سياسيتين متضافرتين تجد “حماس” نفسها وحكومتها امام تأثيرهما الفعال في أوضاعها اليوم بعد أن صارت سلطة او جزءاً من السلطة. القوتان اللتان عنينا هما: الرئاسة وحركة “فتح”، وهما فاعلان كبيران في صوغ مشهد السياسة والسلطة، في مناطق الحكم الذاتي الفلسطيني، وفي تقرير مصير الكثير من عناصر التماسك او الاضطراب في أوضاع الحكومة الفلسطينية الجديدة.

وكائنة ما كانت الأخطاء التي ارتكبتها “حماس” والحكومة في إدارة هذه المرحلة الجديدة الناشئة في امتداد نتائج انتخابات “المجلس التشريعي” وهي أخطاء كثيرة: يزيد من أوارها تصريحات منفعلة وحدية لبعض قادتها في الخارج كما في الداخل فإن شطراً من المأزق الحكومي الفلسطيني الحالي لا يمكن رده الى “حماس” وحدها، او الى الضغط الأمريكي والأوروبي والصهيوني عليها (وهو العامل الأكبر في المأزق ذاك بغير شك)، وانما ينبغي الاعتراف بأن ل “فتح” ورئاسة السلطة دوراً فيه غير قابل للانكار او لالتماس الأعذار. وهو بكل أسف الدور الذي تستذرع به القوى الدولية والكيان الصهيوني وبعض النظام العربي لتشديد الخناق على حكومة يضيّق عليها من الداخل الفلسطيني من يضيّق: إما لإفشالها وتأليب الرأي العام الداخلي عليها لتسهيل اسقاطها او لتقديم الحجة عليها من الداخل الى من يطلب مثل تلك الحجة من الخارج لمزيد من الضغط عليها والابتزاز.

يبدو للقارئ في أداء حركة “فتح”، بعد انتخابات الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني ،2006 وكأن الحركة لم تستسغ بعد هزيمتها في المنافسة الديمقراطية او تنزل بإرادة عالية أمام رغبة أغلبية الشعب في اختيار نخبة سياسية أخرى غيرها لتمثيلها في “المجلس التشريعي”، ولم تتحمل بعد حقيقة خروجها من السلطة بعد اثني عشر عاماً إلا قليلاً من سيطرتها عليها. ولقد كانت النتيجة ان الحركة أمعنت طويلاً في اتيان سياسات من المعاكسة وردود الفعل ضد صعود “حماس” الى السلطة الحكومية قادت جنباً الى جنب مع عوامل أخرى الى صنع هذا الوضع المأزقي الذي تجد فيه “حكومة حماس” نفسها اليوم.

لنطالع ثلاثة مواقف ل “فتح” من “حكومة حماس” تكشف عن ضيقها بنتائج الانتخابات، وعن محاولة منها غير مشروعة لمعاكسة الخيار الحر للناخب الفلسطيني، و الأهم والأسوأ عن سعيها الحثيث في استيلاد شروط التعثر والارتباك لتجربة “حماس” الحكومية على نحو يجافي تقاليد “فتح” الثورية نفسها:

* أولها رفضها المشاركة في الحكومة الفلسطينية الجديدة التي كلف اسماعيل هنية السياسي والقائد المعتدل والمنفتح بتشكيلها. اما التبرير الذي ساقته “فتح” للاعتذار عن عدم تلبيتها عرض هنية لمشاركة في حكومة ائتلافية وهو عدم اعتراف “حماس” بمنظمة التحرير كمرجعية للسلطة وكممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني فكان تبريراً ضعيفاً لأكثر من سبب: لأنه سمح ل “حماس” بالمشاركة في الانتخابات دون أن يقول لها أحد إن “المجلس التشريعي” من مؤسسات سلطة مرجعيتها هي منظمة التحرير وان المشاركة فيه تقضي بالاعتراف بالمنظمة ابتداء وأساساً، ولأن “فتح” نفسها لم تقم أي اعتبار لمنظمة التحرير منذ “اوسلو”، وخاصة منذ قيام السلطة في العام ،1994 بل همشتها وصادرت دورها التمثيلي والسياسي لصالح السلطة! وعلى الرغم من عظيم أسفنا لموقف “حماس” من المنظمة كمرجعية وطنية عليا للشعب (لا السلطة)، واعتقادنا العميق بخطئها الفادح في هذا الشأن (الذي ستكتشفه مستقبلاً)، إلا أن من يعتدي على دور منظمة التحرير ويصادره ويمتهنه لا يملك الحق في تذكره فجأة بعد نسيانه: لا من باب صحوة الوعي وإعادة الاعتبار للمنسي والمقصي، بل من باب النكاية في من اقترف الخطأ عينه مثله! عذر أقبح من زلّة هو، إذن، ذلك التبرير.

* وثانيها الضغط على الحكومة بوسائل غير سياسية ومن طريق اطلاق حالة من الاحتجاج المسلح: تارة بدعوى تأخر صرف الرواتب، وأخرى بدعوى عدم الادماج في الأجهزة الأمنية، وطوراً للاحتجاج على تصريحات بعض قادة “حماس” مثل خالد مشعل او محمد نزال.. الخ. وكان ثابتاً، في جميع الأحوال، أن هذا النمط من الضغط يتجاوز المؤسسات وقواعد السياسة من جهة، ويهدد بحرف السلاح الوطني الفلسطيني عن أهدافه الوطنية والزج به في مناقصات سياسية داخلية، بل وتحويل الأجنحة العسكرية للفصائل الى ميليشيات من جهة أخرى! ولما كان معلوماً لدى من يفتعلون هذا الضغط من بعض “فتح” ان الحكومة لا تملك الرد عليه بوسائل أمنية لأكثر من سبب، فإن المرام منه ليس أكثر من إرباكها وإعاقة حركتها وبيان ضعفها أمام الرأي العام الداخلي.

* أما ثالثها فهو التوسل بموقع الرئاسة للضغط على الحكومة: بتحريض الأولى على الثانية ودفعها، بشتى الوسائل، الى مصادرة سلطاتها او فرض شكل من الوصاية عليها. وقد وجد الى جانب محمود عباس، وضمن حاشيته، من تفرغ لوظيفة الوقيعة بينه وبين الحكومة من باب القول إن النظام السياسي الفلسطيني رئاسي (وهذه البطانة عينها هي من طالب بوضع نهاية للنظام الرئاسي في عهد الرئيس الشهيد ياسر عرفات وطالب بنقل كثير من سلطاته الى رئيس الوزراء). وقد لا يعرف المتوسلون بموقع الرئاسة للممارسة الضغط على “حكومة حماس” أنهم إذ يبتزون الحكومة ويشددون عليها الخناق، يسيئون أبلغ الاساءة الى موقع الرئاسة نفسه، وينالون من صورته وصدقيته ونزاهته، ويطعنون في حياديته المفترضة، ويقدمونه للجمهور وكأنه الموقع الذي يدافع عن املاءات العدو الخارجي وشروطه! وتلك لعمري طريقة أخرى لإحراق رصيد أبي مازن السياسي والوطني.

من يقرأ هذه المواقف والأفعال، يلحظ مفارقة حادة تحكم سلوك حركة “فتح” او قل للدقة بعض المتنفذين فيها اليوم وهي التأرجح بين التصرف كمعارضة فقدت السلطة ولم تجترع كأس خسارتها بعد، وبين التصرف كسلطة لا ترى في الحكومة إلا معارضة في ثوب جديد! فإذ تحسب نفسها معارضة، لا تأتي من الأفعال ومن ردود الأفعال إلا ما يقيم دليلاً على أنها لم تستوعب بعد معنى المعارضة في النظام السياسي الحديث بوصفها قوة بناء وتصويب ولم تفهم منه سوى أنه قرينة على الكيد واقتناص فرص الانقضاض قصد الثأر والاقتصاص ولو كان ذلك بوسائل وأساليب تفتقر الى الحد المقبول من أخلاقيات السياسة والمنافسة والتدافع! وإذ تحسب نفسها سلطة (لأن الرئيس منها وكذا قادة الأجهزة الأمنية)، لا ترى الحكومة مؤسسة رسمية بقدر ما ترى فيها أولئك الذين يشغلونها من المخالفين. وهكذا بدل أن يقع التعامل معهم بوصفهم شركاء في القرار والإدارة، يجري النظر إليهم بوصفهم معارضين ل “سلطة فتح” او لما تبقى منها بعد زلزال الخامس والعشرين من يناير 2006.

لا تستحق “فتح” التي أطلقت الثورة الفلسطينية وقادت حركة التحرر الوطني لأربعين عاماً وصنعت واحدة من أعظم الملاحم النضالية في التاريخ المعاصر أن تصبح صورتها عرضة للتمريغ على يد فريق منها لا يريد من الموضوع كله سوى السلطة، ولا شيء غير السلطة.

التعليقات