31/10/2010 - 11:02

من يقبض على السفير الإسرائيلي؟../ علاء الاسواني

من يقبض على السفير الإسرائيلي؟../ علاء الاسواني
حدث ذلك في الساعات الأولى من صباح يوم 17 نوفمبر عام 2004 ..

كان العسكري المجند عامر أبو بكر عامر واقـفا في نوبة حراسته الليلية في مدينة رفح المصرية، ومعه زميلان مجندان هما علي صبحي النجار ومحمد عبد الفتاح.. كان البرد شديدا والوقت يمر ببطء.. في أي موضوع كان المجندون الثلاثة يتحدثون؟ هل كانوا متعبين وجائعين يتوقون الى نهاية نوبة الحراسة ليتناولوا طعاما ساخنا ويخلدوا الى نوم عميق؟

لقد كانوا في بداية العشرينيات من أعمارهم فهل كانوا يحلمون بنهاية فترة التجنيد ليبدأوا حياتهم فيلتحقوا بعمل ويتزوجوا ويكوّنوا أسرهم؟ هل كان أحدهم يحكي بحماسة لزميليه عن خطيبته التي يحبها؟ كل ذلك لا نعرفه، لكن الذي نعرفه أنهم في حوالى الساعة الثالثة صباحا لمحوا دبابة إسرائيلية من نوع «ميركافا» قادمة نحوهم، ظلت الدبابة الإسرائيلية تقترب حتى أصبحت على بعد عشرين مترا من الجنود المصريين ثم أطلقت فجأة دانة مدفع أتبعتها بنيران كثيفة مزقت جسد علي صبحي النجار وجسد محمد عبد الفتاح فماتا على الفور، أما عامر أبو بكر فقد أصيب بجراح بالغة أدت بعد ذلك الى وفاته في المستشفى.

وهكذا استشهد ثلاثة شبان مصريين يؤدون الخدمة العسكرية. لم يرتكبوا جرماً ولا مخالفة ولم يؤذوا أحداً ولم يضايقوا الإسرائيليين في أي شيء. لكن الجيش الإسرائيلي قتلهم بدم بارد وبطريقة وحشية جعلت من الصعوبة التعرف على ملامح وجوههم أثناء دفنهم.

ماذا فعلت الحكومة المصرية عندما علمت بالمذبحة؟ قدمت احتجاجا شديدا لإسرائيل واعتبرت مقتلهم تصرفا غير مسؤول (لاحظ رقة التعبير) وسارع أرييل شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، بالاتصال بالرئيــس مــبارك وأبلغه اعتذاره عن الحادث. كم تبدو كلمة الاعتذار هنا شاذة وضئيلة. الإنــسان يعــتذر عادة إذا وصل متأخرا عن الموعد أو دهس قدم جاره بدون قـصد في زحــام المترو، أما أن يقتل ثلاثة من البشر الأبرياء بهذه الطريقة البشعة، فإن الاكتــفاء بالاعتذار يعد في حد ذاته إهانة ويعكس استهانة بالغة بكرامة الضحــايا وقيمة الحـياة الإنسانية.

لقد وعدت السلطات الإسرائيلية بإجراء تحقيق عاجل في الجريمة، وبعد مرور ستة أعوام كاملة لم تعلن إسرائيل نتيجة التحقيق، ولعلها لم تقم بإجرائه أساسا.

وللأسف فقد نسيت الحكومة المصرية الشهــداء الثلاثة تماما، وحدثت بعد ذلك عشرات اللقاءات بين المسؤولين المصريين والإسرائيليين، فلم يسأل مسؤول مصري واحد عن نتيجة التحقيق مع قتلة الجنود المصريين. على أن أهل الشهيد عامر أبو بكر عامر أقاموا دعوى قضائية ضد سفير إسرائيل في القاهرة باعتباره ممثلا لحكومة إسرائيل.

وظلت القضية متداولة في المحاكم المصرية حتى صدر مؤخرا الحكم النهائي في القضية.

حيثيات الحكم قطعة من الأدب القانوني الرفيع، تتضح من خلالها كل الأبعاد القانونية والدولية للجريمة، وفي النهاية يقضي الحكم بتعويض أسرة الشهيد عامر أبو بكر عامر بمبلغ 10 ملايين دولار تكون الحكومة الإسرائيلية ملزمة بدفعه عن طريق سفيرها في القاهرة. هذا الحكم التاريخي يؤكد بضع حقائق مهمة:

أولا: قدمت المحكمة الأدلة القاطعة على أن قتل الجنود المصريين بهذه الطريقة البشعة لم يكن من قبيل الخطأ أو الصدفة، بل هو جريمة قتل عمد مكتملة الأركان، واستندت المحكمة الى تقارير المراقبة الدولية المحايدة لتثبت أن الجنود الإسرائيليين القتلة كانوا واقعين تحت تأثير هوس ديني يدفعهم الى كراهية المصريين والسعي الى قتلهم بدون تمييز.

ثانيا: أكدت المحكمة أن أموال إسرائيل كلها لن تعوض والد الشهيد عامر ووالدته عن ابنهما الذي فقداه، لكنها حددت التعويض بمبلغ 10 ملايين دولار لأنه المبلغ ذاته الذي قضت به المحاكم الأوروبية كتعويض لضحايا لوكربي الذين سقطت بهم الطائرة في اسكتلندا وقد أُجبرت الحكومة الليبية على دفع هذا المبلغ لأسرة كل ضحية في لوكربي. إن إصرار القاضي المصري على أن يحصل أهل الشهيد المصري على تعويض لوكربي نفسه، يؤسس لمبدأ إنساني راق ونبيل، فالعدالة لا تتحقق إلا بالمساواة في الحقوق كما أن قيمة النفس الإنسانية يجب أن تكون واحدة دائما. فالأم المصرية التي فقدت ابنها المجند تحس بالألم ذاته الذي تشعر به الأم الغربية التي فقدت ابنها في لوكربي. وبالتالي فهي تستحق التعويض ذاته.

ثالثا: الحكم نهائي وواجب النفاذ وقد مضت على صدوره أربعة شهور ولا يمكن السفير الإسرائيلي أن يحتمي بحصانته الدبلوماسية في هذه القضية. فقد أثبتت المحكمة في بحثها القانوني أن الحصانة القضائية التي يتمتع بها السفير الإسرائيلي لا تشمل هذه القضية. إذ تستثنى من الحصانة كل القضايا التي لا تتعارض مع وظيفته الدبلوماسية ولا تعوقه عن أداء عمله. السفير الإسرائيلي، طبقا للقوانين المصرية و الدولية، ملزم بتنفيذ الحكم، وإذا امتنع عن التنفيذ فإنه يواجه عقوبات قانونية رادعة يجب تطبيقها عليه فورا.

رابعا: إن تجاهل هذا الحكم في وسائل الإعلام والدوائر الحكومــية الغـربية يبين مرة أخرى مدى ازدواجية المعايير والنفاق في الــسياسة الغربية تــجاه إسرائيل. لقد اتخذت الدول الغربية كلها موقفا قويا موحدا في قضية لوكربي وضغطت بشدة على ليبيا حتى أجبرتها على دفع تعـويضات للضــحايا، و قال المســؤولون الغربيون آنذاك كلاما كبيرا وجميلا عن الشرعية الدولية وسيادة القانون وحقوق الانسان. لكن ضحايا لوكربي كانوا غربيين أما الضحايا في هذه المجزرة فهم مصريون والذي نفذ المذبحة جنود من الجيش الإسرائيلي. من هنا لاذ المسؤولون الغربيون بالصمت التام.

خامسا: يكشف هذا الحكم المواقف المتناقضة المتهافتة للنظام المصري. ففي الصراعات الصغيرة (ضد قطر أو قناة الجزيرة) وفي الصراعات التي توافق الهوى الأميركي (ضد إيران وحزب الله وحماس)، يرتدي وزير الخارجية أبو الغيط ثوب الأسد الهصور ويهاجم الجميع ويهدد بكسر الأقدام والأعناق ويجلجل صوته متحدثا عن السيادة الوطنية والقانون الدولي. هذه المرة لم نسمع صوت أبي الغيط ولا حتى همساته، لأن الحكم صدر ضد إسرائيل التي يفعل النظام المصري كل ما يستطيع لإرضائها: بدءا من صفقات الغاز والإسمنت الى إطلاق الجاسوس عزام وحتى إغلاق معبر رفح لتجويع مليون ونصف مليون فلسطيني .. والغرض من إرضاء إسرائيل أن يتحرك اللوبي الصهيوني فيضغط على الإدارة الأميركية من أجل قبول توريث الحكم من الرئيس مبارك الى ابنه جمال (الذي ينتظر دوره الآن في حكم مصر وكأنها مزرعة دواجن أو عزبة سيرثها عن أبيه).

سادسا: يبدأ هذا الحكم صفحة جديدة من الصراع العربي الإسرائيلي، إذ يؤسس لمعركة قضائية ممكنة ومشروعة ضد جرائم إسرائيل. استنادا لهذا الحكم سيكون بمقدور أهالي الشهيدين الآخرين الحصول على التعويض ذاته وكذلك أهالي كل المصريين الذين قتلتهم إسرائيل على الحدود. أما أهالي الضحايا الذين سقطوا في المذابح الإسرائيلية الكثيرة بدءا من بحر البقر وحتى قانا وغزة، فسيكون بإمكانهم ملاحقة إسرائيل في المحافل القانونية الدولية .. إن واجبنا جميعا أن نضغط من أجل تنفيذ هذا الحكم ضد السفير الإسرائيلي وإلا فإن عليه تحمل التبعات القانونية لامتناعه عن التنفيذ.

أخيرا... لا يجوز أبدا أن نشكر القاضي على حكم أصدره، لأن من يملك الشكر يملك اللوم واستقلال القاضي يربأ به عن المدح والذم معا، لا سلطان على القاضي إلا من القانون وضميره. هذه التقاليد القضائية العريقة ترسخت دائما في أذهان المصريين حتى أنهم اذا صدر الحكم لمصلحتهم لا يشكرون القاضي أبدا بل يرددون الهتاف الشهير «يحيا العدل». نحن، إذاً، لا نشكر القضاة الذين أصدروا هذا الحكم بل نجد من واجبنا أن نذكر أسماءهم التي ستظل مصر كلها ترددها الى الأبد، جيلا بعد جيل، لأنهم سجلوا صفحة ناصعة في تاريخ القانون والإنسانية.

.. صدر هذا الحكم في الدائرة 4 تعويضات من محكمة استئناف القاهرة. الدائرة برئاسة المستشار أحمد البرديسي وعضوية المستشارين حمدي غانم وأحمد سليمان وحضور أمين السر سعيد زهير.
أيها القضاة الشرفاء العظام .. يحيا العدل.
..الديموقراطية هي الحل..

"السفير" و"الشروق"

التعليقات