31/10/2010 - 11:02

مواعظ "الحاخام" بيريس../ عبد الباري عطوان

مواعظ

مارس الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريس أبشع أنواع الكذب والخداع أثناء إلقائه خطابا أمام المشاركين في مؤتمر "حوار الأديان" الذي ينعقد بمبادرة سعودية ورعاية الأمم المتحدة وأمينها العام في نيويورك حاليا. فقد صوّر إسرائيل على أنها حمامة سلام لا تقتل ولا تجوّع ولا تحاصر ولا تحتل أراضي الآخرين، وسرد انجازاتها في توقيع معاهدات سلام مع جيرانها العرب، وأظهر هؤلاء، أي العرب، كما لو أنهم هم الذين يقتلون الأطفال، ويحرمون الأجيال المقبلة من الاستقرار والعيش الكريم.

بيريس وكعادته في التلاعب بالكلمات، والتباكي على ضياع فرص السلام، حرص على التركيز في كلمته على أن التعايش مزدهر في المنطقة، والمشكلة الوحيدة تكمن في أولئك الذين يبذرون "بذور الكراهية، وتعميق فجوة الخلافات". وقال "إن هؤلاء يذبحون الناس وكأنهم شياه" ولذلك "يجب التصدي لهم، وان نرفع رايات الأخوة، مما سيؤدي إلى تحقيق فرص التعايش والسلام وقيام علاقات اقتصادية وثقافية تقدم رؤية للمنطقة ككل".

كلام "ملغوم" يميط اللثام بطريقة أو بأخرى عن الإستراتيجية التي تأمل إسرائيل وأمريكا، وبعض الدول العربية، بتطبيقها في المنطقة، أي خلق تحالف عربي ـ إسرائيلي يتصدى لأولئك الذين يبذرون بذور الكراهية هذه، أي مقاومة الاحتلالات الإسرائيلية للأراضي والمقدسات العربية والإسلامية في فلسطين وسورية ولبنان.

من المؤكد أن بيـريس لا يقصد إسرائيل عنـــدما يشير إلى أولئك الذين يذبحــون الناس كالشياه، وإنما يقصد الآخرين، أي العـرب والمسلمين، فإسرائيل وقواتها تقصف أطفال غزة والضفة وجنوب لبنان بالورود والرياحين، وترسل لهم علب الحلوى والألعاب الالكترونية في الأعياد، وليس القنابل العنقودية والصواريخ من مختلف الأحجام والأوزان.
ولعلها مفارقة لافتة أنه في الوقت الذي كان يتغنى فيه بيريس بالسلام والتعايش وحقوق الإنسان من اجل "أطفالنا"، كانت القوات الإسرائيلية تتوغل في قطاع غزة، وتقتل أربعة من الشبان، وترّمل نساءهم وتيتّم أطفالهم. والأكثر من ذلك أن حكومته أوقفت كل شحنات الوقود للقطاع، مما يعني إغراقه في ظلام دامس، وتعطل كل أسباب الحياة فيه، بما في ذلك غرف العمليات في المستشفيات المتهالكة بفعل الحصار.

إن هذه الحوارات السياسية التي تتم تحت مظلة تعايش الأديان، وتصالحها، وتعاون أتباعها، تصب في مصلحة الممارسات التوسعية الإسرائيلية، من حيث توفير المنابر للمسؤولين الإسرائيليين لكي يخاطبوا العالم كما لو أنهم أناس أبرياء لم يرتكبوا ذنبا، ولم ينتهكوا حقوق الآخرين، بل ومبادئ المنظمة الدولية وقيمها التي يلقون كلماتهم تحت سقفها.

كنا نتمنى لو أن القادة العرب الذين تحدثوا قبل بيريس أو بعده، قد ذكّروا الرئيس الإسرائيلي بأن حكومته هي التي تسمّم أجواء المنطقة بسياساتها، وتحرم الأجيال الحالية والمقبلة من العيش الكريم، وتنشر الكراهية والأحقاد بين أبناء الديانات السماوية، عندما تقتل بدم بارد وتقلع الأشجار وتدمر المزروعات، وتغلق المعابر، وتقيم حواجز الذل والعار في مختلف أنحاء الضفة الغربية. ولكن لم نسمع منهم غير الأحاديث الناعمة عن الحوار والتعايش والسلام وثقافته التي يجب أن تسود.

إن أكثر ما يغيظنا، ويستفز مشاعرنا، كعرب ومسلمين، بل كبشر، هو إسهاب الرئيس الإسرائيلي في الحديث عن احترام حقوق الإنسان في خطابه المذكور، الذي لقي تصفيقاً حاراً من رئيس الوفد الفلسطيني وأعضائه، مثلما ظهر عبر شاشات التلفزة مباشرة. أي أن الضحية تصفق للجلاد على سلخها. فقد نسي بيريس مثلما نسي أعضاء الوفد الفلسطيني الموقّرون، أن هناك احد عشر ألف أسير فلسطيني في معتقلات حكومة بيريس، وأربعة آلاف شهيد وأربعين ألف جريح سقطوا برصاص القوات الإسرائيلية منذ توقيع اتفاقات أوسلو.

فهل إغلاق المعابر وتجويع وإذلال مليون ونصف مليون فلسطيني في قطاع غزة وإقامة ستمئة حاجز في الضفة الغربية لتحويل حياة أكثر من مليوني شخص إلى جحيم لا يطاق، وجعل أكثر من مئة ألف إنسان في مدينة الخليل أسرى لإرهاب أربعمئة مستوطن إسرائيلي، من قيم حقوق الإنسان وثقافتها التي يريد بيريس نشرها في المنطقة؟

لا نعرف ماذا جرى ويجري في الغرف المغلقة، فقد كان واضحاً أن هناك تعليمات صارمة بإبعاد الكاميرات ورجال الصحافة عن معظم الفعاليات، وشاهدنا أبشع أنواع الرقابة تمارس علينا كمشاهدين، حيث لم تنقل لنا الكاميرات تعبيرات وجوه العديد من الزعماء العرب المشاركين، أثناء إلقاء كلمة بيريس، تماماً مثلما حدث أثناء لقاءات مؤتمر أنابوليس للسلام في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، ولكن ما يمكن أن نتكهن به أن الأجواء السائدة هي أجواء تصالحية، وربما لم يكن من المناسب تعكيرها بالحديث عن قضايا مثل حصار غزة أو الحفريات تحت المسجد الأقصى، أو سقوط الشهداء بعـــد ذبحهم مثل الشياه بأحدث أدوات القتل الإسرائيلية.

نعم نحن أتباع إله واحد، وننتمي إلى نسل سيدنا إبراهيم عليه السلام جدنا جميعاً، ولكن ما يمارسه أحفاد هابيل من قتل لأهلنا، وتدمير لبيوتنا ومزروعاتنا، وتفرقة عنصرية لبعض من تمسكوا بأرضهم وقاوموا كل محاولات اقتلاعهم، لا يمت لسيدنا إبراهيم بأي صلة، وإنما يسيء إليه والى قيم التسامح والعدالة والمساواة التي بشر بها.

مبادرة السلام السعودية التي كانت موضع ثناء بيريس أصبحت مبادرة عربية، اعتمدتها قمة بيروت عام 2002 بصورتها المعدلة، وخاصة الفقرة المتعلقة بحق العودة للاجئين الفلسطينيين، هذه المبادرة هي اقل من الحد الأدنى من المطالب العربية من اجل سلام شامل، ولا يمكن التنازل عن أي من بنودها استجابة لأساليب المراوغة الإسرائيلية المعسولة.

حوار الأديان خطوة حضارية، ولكن يجب أن يتم بين العلماء والفقهاء من أتباع جميع الديانات، وعلى أرضية المساواة والرغبة في التعايش، والانتصار للضعفاء والمظلومين برفع الظلم عنهم. أما أن يشارك في هذا الحوار أناس أياديهم ملطخة بدماء الأبرياء، أو حكام طغاة مستبدون، فهذا أمر مرفوض ويعطي نتائج عكسية تماماً.

علينا أن نتحاور فيما بيننا، نحن أبناء العقيدة الواحدة أولا، لتسوية خلافاتنا، وتحديد هوية أعدائنا وفقاً لشريعتنا وقيمنا، وتوحيد صفوفنا، ثم علينا بعد ذلك أن ننطلق لحوار الآخرين الذين يحتلون أرضنا وينتهكون أعراضنا، ومن موقع قوة، أما قبل ذلك فهو قفز على الثوابت، وخلق للمزيد من الخلافات والانقسامات.

التعليقات