31/10/2010 - 11:02

ناصر" يعود مسلسلاً كأحلام المساء../ فيصل جلول

ناصر
بعد 38 عاماً على غيابه مازال الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر قادراً على حمل ملايين المشاهدين العرب على متابعة سيرته السياسية من خلال مسلسل تلفزيوني ناجح يعرض هذه الايام على قنوات فضائية ثانوية سجلت بفضله نسباً قياسية من عدد المشاهدين.

والظاهر أن ناصر مسلسلاً يثير انقساماً من نفس الطبيعة التي اثارها ناصر رئيساً لبلاده وزعيماً عربياً. ففي الحالتين ثمة فئات (قليلة) ما انفكت تناهض رسمه بقوة مقابل أكثرية ساحقة من المصريين والعرب تحن إلى زمنه بل تتطلع إلى من يستأنف مسيرته المصرية والعربية. والراجح أن حجب المسلسل عن القنوات الاولى رغم مواصفاته الفنية القوية ورغم النجاح التجاري الذي يضمره ليس ناجماً عن سوء تقدير أو عن تدبير أحمق، بل ربما ينطوي على حسابات سياسية يمكن حصرها في الخطوط التالية:

* أولاً: ربما يخشى حجاب المسلسل من اقبال الاجيال الجديدة على الخيار الناصري بدلاً من الخيارات السياسية الفاشلة التي اعتمدت بديلاً للناصرية وعلى الضد منها طيلة العقود الماضية.

* ثانياً: كانت حجة المناهضين للناصرية تقول ان السلام مع "إسرائيل" والانخراط من دون شروط في السوق الرأسمالية يعدان بنهضة حقيقية وبمصير أفضل. لقد اختبرت هذه الحجة طيلة اربعة عقود حتى وصلت إلى طريق مسدود تماماً كالحريات الموعودة والديمقراطية المفتوحة والتعددية الحزبية وغيرها من المغريات التي استخدمت في مكافحة الناصرية. ولعل تحرر الإرث الناصري من هذه القيود الايديولوجية التي كبلته طويلاً فتح النقاش مجدداً حول خيارات جمال عبد الناصر السياسية والتعريف بها من خلال عمل فني ناجح اخفق المناهضون في الحؤول دون انتاجه فعمدوا إلى حجبه.

* ثالثاً: وجهت هزيمة يونيو/حزيران عام 1967 ضربة قاصمة للناصرية وشقت طريقاً عريضاً للنيل منها في حملة شاملة اشتركت فيها على تنافر فئات يسارية وليبرالية ومحافظة، وقد جربت هذه الفئات حظها طيلة العقود الماضية في خلافة الناصرية دون جدوى.

من جهة ثانية اعادت الانتفاضة الفلسطينية في ثمانينات القرن الماضي، والمقاومة اللبنانية مطلع الألفية الثالثة، الاعتبار لاستراتيجية المجابهة الناصرية مع "إسرائيل" ولعل النجاح الذي اصابته والضعف المتزايد الذي طرأ ويطرأ على قوة الردع "الإسرائيلية" ناهيك عن الصراع الذي خاضه ويخوضه المقاومون مع خصوم عبدالناصر القدماء والجدد وتقديرهم المعلن له، ذلك كله أدى إلى طي صفحة الهزيمة وتحرير الناصرية من إحدى اهم نقاط ضعفها وبالتالي عودة ناصر.. مسلسلاً بكامل هيبته بلا هزيمة ولا من يهزمون.

* رابعاً: حمل جمال عبدالناصر على رأس تيار مصري وعربي واسع راية طرد الاستعمار القديم من العالم العربي ونجح في مهمته، لكن الاستعمار عاد مجدداً إلى المنطقة العربية عبر القواعد العسكرية تارة واحتلال العراق والصومال تارة أخرى، وتمويل وتنظيم الحروب الاهلية والطائفية تارة ثالثة، والسعي لتغيير خريطة المنطقة برمتها تارة رابعة. لقد صبت هذه العودة الماء في طاحونة الناصرية بوصفها تياراً مظفراً في الكفاح ضد الاستعمار القديم العائد من حيث طرد تحت شعار "نشر الديمقراطية" بدلاً من شعار "نشر الحداثة" الذي استخدمه القدامى. ولعل عودة ناصر.. مسلسلاً تنطوي على أكثر من عمل درامي أنها مناسبة للقول إن عدتم عدنا.

* خامساً: على الرغم من الهجوم الشنيع الذي تعرض له "الريس" في بلاده وخارجها، وعلى الرغم من القوة الثقافية الضاربة التي انهالت على سيرته تهشيماً وتشنيعاً طيلة العقود الماضية (مؤرخين وكتاب سيرة وايديولوجيين وروائيين وسينمائيين.. الخ)، وعلى الرغم من سيطرة خصومه التاريخيين على وسائل التعبير والنشر المهمة في العالم العربي، وعلى الرغم من ركاكة وسوء أداء معظم الذين يدعون وصلاً بالناصرية، على الرغم من ذلك كله يعود عبدالناصر مسلسلاً "واثق الخطوة" إلى حد يخشى خصومه وأعداؤه من عرض سيرته في قناة تلفزيونية رئيسية ما يعني أن ناصر الغائب منذ 38 عاماً مازال قادراً عبر شريط تلفزيوني على بث الخوف في نفوس خصومه وأعدائه.

في مقال كتبه بعيد اعلان وفاة عبدالناصر يقول المستشرق الفرنسي الراحل مكسيم رودنسون "كثيرون تمنوا الموت لجمال عبدالناصر: عملاء أمريكيون و"إسرائيليون" وأقدام سود واشتراكيون وجنرالات فرنسيون وإخوان مسلمون (تغير موقفهم من بعد) وكثيرون غيرهم ممن سيكشف عنهم التاريخ.. كثيرون منهم لم يفهموا أن قتل عبدالناصر لا يعني قتل الناصرية ذلك بأن عبدالناصر ان كان مكروهاً فلأنه يجسد أحلام شعبه".

يؤكد حجب ناصر، مسلسلاً عن القنوات التلفزيونية الأساسية هذا الاستنتاج بعد 38 عاماً على صياغته، فالمحجوب هو الناطق باسم المصريين والعرب والمجسد لأحلامهم وهذه عابرة للاجيال والتاريخ وعصية على الحجب والمنع ولو كره الحاجبون.

أغلب الظن أن فريق العمل الذي أنجز هذا المسلسل ما كان يحسب انه سيعين جمال عبدالناصر على التعبير مجدداً عن احلام العرب، وسيساهم في تحريره من القيود التي كبلته طيلة السنوات الماضية وأنه سيبعثه مجدداً إلى فضاء جماهيري لطالما انتظره.

بعد 38 عاماً يعود ناصر، مسلسلاً ليردد: ارفع رأسك يا أخي. ولو أراد لأضاف: ارفع رأسك فأنت تنتمي إلى أمة لا تليق بها الرؤوس المطأطأة سواء أكانت متوجة بأكاليل الذهب الأصفر أم عارية إلا من رحمة باريها.
"الخليج"

التعليقات