وصف تقرير صادر عن مؤسسة الدراسات الملكية للشؤون الدولية في بريطانيا الحكومة العراقية بانها لا تملك اية قدرة للسيطرة على العراق، وبانها فقدت السيطرة بشكل كامل على مناطق واسعة من البلاد، مما يسمح بالاستنتاج بانها قد فقدت مبررات وجودها في السلطة. وبلغت نظرة الدكتور غاريث ستانسفيلد مستوى من التشاؤم دفعه الى توقع انهيار العراق ككيان وتفتته.
لا يواجه العراق، وفق هذا التقويم، حربا اهلية بل عدة حروب اهلية، تضطلع بتنفيذها مجموعة كبيرة من التنظيمات والجماعات ضمن لعبة معقدة جدا من اجل السيطرة على مقدرات البلاد وتقاسم السلطة والنفوذ. فالحرب التي يتعامل معها الاعلام الخارجي تتركز فقط على ما يجري في بغداد وحولها من مدن وسط العراق، والتي تتركز على الصراع على السلطة المركزية، والذي تقوده الجماعات والمنظمات السنية من اجل الحصول على اعتراف بدور اساسي في السلطة الجديدة، في محاولة معلنة لرفض الصيغة القائمة في الحكم والتي همشت دور السنة العرب لصالح الشيعة والاكراد.
في الواقع هناك حروب اخرى تخوضها فئات عديدة اخرى على مستوى المحافظات، حيث تحاول فئات محلية او عشائر السيطرة على الارض وعلى مواقع النفوذ والسلطة المحلية.
الى جانب التعقيدات الداخلية للوضع الامني المتردي، ولفقدان الدولة لكل مقومات السلطة خارج المنطقة الخضراء داخل بغداد، تبرز تعقيدات الازمة بوجوهها الخارجية، حيث يبرز الدور الخطير والمؤثمر الذي يلعبه بعض جيران العراق من اجل افشال كل المحاولات الاميركية للسيطرة على الوضع الامني ومن اجل اقناع واشنطن بتسريع قرارها بسحب قواتها من العراق.
يعطي الاعلام في اغلب الاحيان صورة خاطئة عن حقيقة ما يجري في العراق، بحيث يركز على بعض العمليات الانتحارية والتفجيرات بواسطة السيارات الملغومة، او استهداف القوافل الاميركية مما يوحي بان تنظيم القاعدة، وبعض التنظيمات السنية والمشكلة من البعثيين وبعض قدامى القوات المسلحة يشكلون وحدهم عظيم «المقاومة» الرافضة للاحتلال وللسلطة المتمثلة بحكومة المالكي.
ان الدور الذي يلعبه جيران العراق هو أعمق واخطر من ذلك وخصوصاً الاختراق الايراني الكبير لكل المجتمع السياسي والامني ولكل اوجه الحياة داخل العراق.
ادركت الولايات المتحدة بصورة متأخرة ان القوة العسكرية وحدها لا تكفي لاستعادة الاستقرار داخل العراق، كما أن العمل السياسي الداخلي لا يفي بالغرض. وان اكبر دليل على ذلك نجده في عجز حكومة المالكي المنبثقة عن انتخابات عامة جرت وفق الدستور الجديد. كما نجده في الحشد العسكري الاميركي والعراقي داخل بغداد دون ان يؤدي ذلك الى نتائج ملموسة، على صعيد الاستقرار العام ووقف عمليات القتل الأعملى للمدنيين العراقيين.
لا بدّ أن تأخذ الاستراتيجية لمعالجة هذا التدهور الخطير على المستويين السياسي والامني بالوقائع القائمة في العراق بشقيها الداخلي والخارجي. ويبدو أن الادارة الأميركية قد ادركت متأخرة بعض هذه الحقائق وخصوصاً ضرورة فتح حوار مع جيران العراق وخصوصاً كل من سوريا وايران. بدأ هذا الفصل الجديد من الاستراتيجية الاميركية التي اوصى ببعضها تقرير لجنة بايكر ـ هاملتون في شرم الشيخ من خلال اجتماع الوزيرة رايس بوزير خارجية سوريا وليد المعلم.
وتستعد الآن بغداد لتشهد مفاوضات اميركية ـ ايرانية على مستوى السفراء اعتباراً من 28 الشهر الجاري.
ليس هناك ما يؤكد حتى الآن احتمالات نجاح المناقشات الاميركية ـ السورية او الاميركية ـ الايرانية في تحقيق تعاون فعلي وصادق من اجل ضبط الأمن وتحقيق الاستقرار. صحيح أن ايران قد قبلت بعد تردد ان تجري المناقشات حول الوضع داخل العراق، دون التطرق للمواضيع الاخرى، لكن يجب النظر الى هذا القبول بانه مرحلي، حيث ستربط ايران تعاونها على الارض بقرار فتح مفاوضات مع واشنطن حول الملف النووي الايراني، وفي خطوة اولية لوقف العقوبات الجديدة التي هدد بفرضها الرئيس بوش مؤخراً وذلك على ضوء معلومات الوكالة الدولية للطاقة الذرية حول تجاوز ايران لكل العقبات التقنية التي واجهتها في تشغيلها لألف وثلاثمئة جهاز للطرد المركزي في منشأة ناطنز قرب اصفهان. وتربط سوريا من جهتها تعاونها الفاعل في ضبط الحدود مع العراق باعتراف واشنطن باهمية دور دمشق الاقليمي وخصوصاً لجهة معاودة المفاوضات من اجل تحرير الجولان والاعتراف بنفوذها في لبنان.
في حال عدم نجاح الخطط السياسية والامنية المعتمدة كمكونات اساسية في الاستراتيجية الاميركية الجديدة، فانه من المتوقع حصول تداعيات دراماتيكية (على غرار ما وصف التقرير البريطاني)، مع التأكيد على انه لا يمكن حصر نتائج هذه التداعيات داخل حدود العراق. ستكون الكويت والمملكة العربية السعودية ولبنان في دائرة الخطر.
يتوقف نجاح المفاوضات بين اميركا وايران وسوريا على مدى ادراك واشنطن ان الاستراتيجية الايرانية - السورية المشتركة لا تقتصر على مواجهة اميركا في العراق بل تتعدى ذلك لتشمل جنوب لبنان وفلسطين، حيث تستمر المساعدات بالتدفق على حماس وحزب الله تدعيماً لاستراتيجية الضغط على اسرائيل، وعلى حلفاء اميركا في لبنان وداخل السلطة الفلسطينية.
ان ما يشهده المسرح الفلسطيني من اعمال عنف بين السلطة او تحديداً فتح ومنظمة حماس هو افضل مؤشر على ارادة بعض الاطراف الاقليميين للتخريب على اتفاق مكة، والذي تعتبره بعض الجهات بانه قد جرى بايحاء اميركي.
في هذا الوقت يمر المشهد السياسي والامني في لبنان بحالة من الترقب والانتظار، لما يمكن ان تؤول اليه المناقشات الاميركية الايرانية والاميركية - السورية. ان فشل وتعثر هذه المناقشات سيؤدي الى تصعيد سياسي وتحرك في الشارع لمواجهة مفاعيل قرار انشاء المحكمة الدولية بقرار من مجلس الامن، وللعمل ايضاً على تصعيد الضغوط على الحكومة في محاولة جديدة لاسقاطها او لتعطيل الاستحقاق الرئاسي.
لم يعد من الممكن ان يعزل لبنان نفسه عن مفاعيل ما يجري في العراق، وتقضي المصلحة اللبنانية ان يدرك جميع اللبنانيين اهمية استباق هبوب الرياح السامة باتجاه بلدهم بتوافقهم - انطلاقاً من قبولهم بان قضية انشاء المحكمة الدولية قد اصبحت وراءهم، وبانها كأس لا بد منه.
"الديار"
التعليقات