31/10/2010 - 11:02

نقاش بشأن أزمة فتح وأزمة العمل الفلسطيني../ ماجد كيالي

نقاش بشأن أزمة فتح  وأزمة العمل الفلسطيني../ ماجد كيالي
لا يمكن التعامل مع أزمة حركة فتح، على أنها مجرد أزمة سياسية وتنظيمية، أو على أنها نوع من أزمة صراع بين جيلي الشيوخ والشباب، أو أنها أزمة نمو، أو أزمة مؤتمر، على أهمية كل ذلك. والواقع فإن أزمة فتح نشأت معها منذ قيامها، بمعنى أنها أزمة تكوينية، تتعلق بطريقة بناء هذه الحركة، ونمط تفكيرها السياسي، وشكل علاقاتها الداخلية، ومدى قدرتها على تطوير ذاتها.

ويمكن القول بأن الميّزات، التي تمتّعت بها هذه الحركة، لحظة تأسيسها ونهوضها، من أواخر الخمسينيات إلى السبعينيات، هي بالضبط العوامل التي باتت تشكل، بعد ذلك (أي من الثمانينيات إلى الآن)، عوامل عطبها واستفحال أزمتها، بما في ذلك قصور قدرتها على تجديد بناها وتطوير طرق عملها ونمط تفكيرها.

وقبل الحديث عن أزمة فتح، ينبغي الاعتراف بأن هذه الحركة استطاعت أن تحقق إنجازات وطنية كبيرة للشعب الفلسطيني، فهي التي أحضرت هذا الشعب من الغياب، ووضعته على الخارطة، وعملت على استنهاضه وتوحيده، وصاغت هويته الوطنية، وأسست كيانيته السياسية، في مواجهة المشروع الصهيوني؛ الذي يتأسس في أحد مرتكزاته على تغييب الفلسطينيين، وإلغاء وجودهم.

لكن هذه الحركة لم تستطع أن تحقق كل ذلك إلا بفضل الميّزات التي تمتّعت أو تميّزت بها، بين مختلف الفصائل، في المجالات المهمة التالية:

أولا، كونها حركة وطنية، وليست حزبا، فهي لم تتبنّ ايدلوجية ما، ما جعل منها حركة جماهيرية؛ وفي ذلك فهي أكثر حركة وطنية فلسطينية تشبه شعبها.

ثانيا، انبثقت روح فتح من كونها حركة سياسية متأسّسة على التنوّع والتعددية، حيث كانت تضم بين صفوفها مجمل التيارات السياسية والفكرية في الشعب الفلسطيني، وهذا هو معنى فتح، وما ميّزها عن باقي الفصائل.

ثالثا، اعتبارها حركة نضالية، فهي التي بادرت لإطلاق الكفاح المسلح، وهي التي احتضنت الانتفاضة الأولى، وأطلقت الانتفاضة الثانية.

رابعا، طابعها كحركة وطنية مستقلة، تركّز على البعد الوطني، بعيدا عن التجاذبات الإقليمية والدولية، فهي التي أحضرت البعد الفلسطيني في الصراع ضد إسرائيل، وعملت على صيانة استقلالية القرار الفلسطيني.

خامسا، منذ البداية بدت فتح كحركة وطنية واقعية مرنة، تراعي المتغيرات موازين القوى، والتحولات الحاصلة في مجال الصراع العربي ـ الإسرائيلي.

وما ينبغي التأكيد عليه هنا أن حركة فتح، وغيرها من الفصائل، توسّعت ورسّخت حضورها، بشكل سريع ولافت، بفضل عوامل عديدة، خارجية، ضمنها:

1) هزيمة حزيران (1967) وما أحدثته من هزّة في الوجدان العربي، والفلسطيني تحديدا، والتداعيات الناجمة عنها، ولاسيما اختلال النظام السياسي والأمني العربي السائد، وحاجته للتغطية على هذه الهزيمة. وفي هذا الإطار شكل السماح بتوسّع المقاومة المسلحة، ولو إلى حد الانفلاش، مخرجا مناسبا لتهدئة الخواطر في المجتمعات العربية. ولاشكّ بأن هذا التوسع أفاد فتح، حينها، ولكن هذه الحركة بطريقة بنائها وإدارتها، لم تستطع تأطير هذا التوسع، أو التدفق، بشكل مناسب ومدروس، بتحويله من حالة كمية إلى حالة نوعية، ما انعكس عليها سلبا في مرحلة لاحقة، بتحولها إلى حركة وطنية، مترهلة، غير واضحة المعالم.

2) المساعدات المالية الخارجية التي انهالت على الساحة الفلسطينية (وخصوصا على فتح) ومكّنتها من التوسّع، وجلب المتفرّغين، وإقامة المؤسّسات، ومن دون هذه المساعدات ماكان بالامكان تأمين متطلبات العمل الفلسطيني، التي بدا إنها جد مكلفة. وبديهي أن هذه المساعدات خلقت واقعا من الاعتمادية على بعض الدول العربية، بكل ما لذلك من تبعات سياسية، كما إنها خلقت نوعا من طبقة سياسية متميزة في العمل الفلسطيني، خارج علاقات الإنتاج الطبيعية. وإضافة إلى هذا وذاك فإن هذا الوضع جعل من فتح، وغيرها، مستقلة عن شعبها (من حيث الموارد)، فبدلا من أن تعتمد الحركة الفلسطينية على شعبها، بتأمين مواردها، بات الشعب (أو قسما منه) يعتمد على حركته الوطنية. وهذا مستمر حتى اليوم، فقط انتقل الدعم إلى ما يسمى الدول المانحة الداعمة لعملية "السلام". وهذا واحد من أهم معضلات العمل الفلسطيني، حيث لم تعد الحركة الفلسطينية مرتبطة تماما بشعبها، من الناحيتين التمثيلية والموارد الذاتية، وهذا مايفسّر غياب المساءلة، والمحاسبة، والنقد، وعدم مقايسة التضحيات بالإنجازات.

3) إطلاقها المقاومة المسلحة ضد إسرائيل، في واقع فلسطيني وعربي، بحاجة إلى أي عمل ضد إسرائيل، التي تغتصب وتعربد وتقتل وتحتل. وفي حين رأت الأنظمة السائدة في المقاومة نوعا من تغطية على هزيمتها وقصورها في مواجهة إسرائيل (كما قدمنا)، فسارعت إلى النفخ فيها، وتضخيمها، فإن الجماهير العربية رأت فيها نوعا من الخلاص، ليس فقط في مواجهة إسرائيل، وإنما حتى في مواجهة النظام العربي، لاسيما أنها تفتقد لأي مستوى من المشاركة السياسية، والوعي السائد يرتكز على العواطف والغرائز والشعارات، وليس على السياسات وموازين القوى، في ظل ضعف الحياة الحزبية والسياسية. والحاصل فإن المقاومة المسلحة ألهبت مخيلة الكثيرين، وبات الفدائي حينها بمثابة المخلص، وحملت الحركة الفلسطينية مالا تحتمل من أحلام التغيير في العالم العربي. وحتى الأمس القريب كان ثمة مفكرون يراهنون على الانتفاضة باعتبارها رافعة في العالم العربي، ليس من اجل تحرير فلسطين فقط، وإنما ضد "العولمة" ومن أجل استنهاض "المشروع النهضوي العربي"؛ فما بالك بالناس العاديين؟!

مع الزمن، ومع تعقيدات ومداخلات الصراع ضد إسرائيل، بدا أن فتح غير قادرة على الحفاظ على تميّزها، بل إن بعض الميزات، التي ذكرناها، باتت تشكل كابحا أمام تطور هذه الحركة، وأمام قدرتها على التجدد، لأسباب متعددة، أهمها:

1 ـ ضعف الحراك السياسي الداخلي. فعلى رغم أن إتاحة هامش الكلام أو السماح بالاختلاف داخل الحركة (وهذا يختلف عن الديمقراطية)، إلا أن هذه الحركة ظلت مركزية، وتفتقد للعلاقات الديمقراطية الحقيقية. فالتقرير بأوضاع الحركة، صغيرها وكبيرة، والتقرير بالشؤون السياسية والخيارات الاستراتيجية هو مهمة القيادة الأولى، أو هو حكر على بضعة أفراد، أو على زعيم هذه الحركة. وهذا ما يفسر كيف أن قيادة هذه الحركة (أو بعضها) ذهبت لعقد اتفاق "أوسلو" دون نقاش داخلي، وأنها ذهبت للانتفاضة وللمقاومة المسلحة وللعمليات الاستشهادية، في منافسة مع حماس (في الانتفاضة الثانية)، دون البتّ بهذه الأمور داخليا، ودون تفحص عواقب ذلك، ودون التوافق عليها.

2 ـ افتقاد فتح للبني المؤسسية، فالهيئات والأجهزة الحركية، تبنى بطريقة مزاجية وفوضوية وعلى قاعدة المحسوبية (على الأغلب)، وليس على أساس معايير تنظيمية أو نضالية أو معايير تتعلق بالكفاءة، وليس ثمة محاسبة ولا مراجعة، ولا احد يسأل احد عن أي إنجاز. وبالأخير فإن هذه الحركة تحولت إلى مجموعة أجهزة، أو إلى جماعات وتكتلات (مصلحية وليس سياسية أو فكرية كما في مرحلة السبعينيات). ومشكلة فتح هنا إنها طالما افتقدت لهيكلية تنظيمية إذا لا احد يعرف حدود العضوية في هذه الحركة، فهي حركة مفتوحة، وهيولية، وليس ثمة تراتبية واضحة فيها، ولا مرجعية تنظيمية آو سياسية (إلا بالشكليات) لذلك صعب عليها حتى عقد مؤتمر لها؛ بعد غياب مؤسسها ومشكلها ياسر عرفات.

3 ـ لم تبن هذه الحركة على أسس تنظيمية سليمة، أو على أسس حزبية، فالتنظيم فيها مجرد جهاز من الأجهزة، بمعنى أن مجمل اطر الحركة لا تخضع لإطارات تنظيمية، لذا ليس ثمة ترابط بين مجموع بني هذه الحركة، وهذا ما أفضى إلى تعدد المراكز والمرجعيات والجماعات والأبوات، أما الرابط بين الحركيين فبات يقتصر على جدول الرواتب، وعلى المرجعية لهذا المسؤول أو ذاك. وهذا ما يشكل نقطة ضعف جوهرية في هذا الحركة وقد شهدنا ما حصل في تجربة الانتخابات التشريعية الثانية (2006) وفي تجربة غزة (هيمنة حماس 2007) نتيجة هذا التسيب والترهل في بني فتح. هكذا فإن ميزة فتح، باعتبارها ليست حزبا، ولا تتبنى أيدلوجية معينة، لم يعد يحسب لها، وإنما بات يحسب عيبا فيها، لأن هذا الوضع أدى إلى تحولها إلى نوع من تجمع شعبوي عشوائي، بروابط سطحية وضعيفة، ما أوصل هذه الحركة، لاحقا، إلى نوع من الشللية ومراكز القوى. وهذا التحول حصل في عهد الرئيس الراحل، وقائد فتح، ياسر عرفات، ولكنه في حينه كان يجمع كل الخيوط لديه، بفضل ميزاته الخاصة، وعوامل السيطرة التي جمعها في شخصه. ولكن بعد غياب ياسر عرفات باتت فتح حقيقة تفتقد للزعامة، وللقيادة كما للمرجعية السياسية الشخصية أو المؤسسية.

4 ـ غياب الروح الوطنية المنفتحة لفتح، المتأسّسة على التنوع والتعددية، منذ زمن طويل. وفي هذا الوضع لم تعد فتح تسهم في إنتاج فكر سياسي في الساحة الفلسطينية. فلم نعد نشهد نقاشا سياسيا جديا في أطرها، ولم يعد ثمة وجود لتيارات سياسية كانت تغني وتثري فكر هذه الحركة، وباتت حركة فتح مجرد حركة للون واحد. وللأسف فإن الأغلبية المسيطرة، من هذا اللون، هي من المنتفعين أو الوصوليين، وهذا ما يفسر الآن أن الخلافات الفتحاوية هي على المناصب والامتيازات، وليس على تطوير فتح، أو العمل الفلسطيني. لكل ذلك باتت فتح بمثابة حركة جامدة متكلسة، لاسيما بعد أن تراجع البعد النضالي فيها.

5 ـ افتقاد فتح لطابعها كحركة تحرر وطني، وخبو روحها النضالية، لاسيما بعد قيام السلطة (بما لها وعليها). والحاصل فإن فتح لم تميّز نفسها عن السلطة، إذ سرعان ما تماهت معها، وباتت بمثابة حزب لها، وبذلك فقد أصيبت فتح بلوثة السلطة، بعد أن كانت اصبب بلوثة التسوية. النتيجة أن فتح لم تعد ميزتها إنها تضم العناصر الأكثر وطنية ونضالية وكفاءة في الشعب الفلسطيني، بقدر ما تضم المنتفعين، والذين يريدون استغلال وجودها.

6 ـ لا شكّ أن غياب ياسر عرفات، قائد فتح، وهو مؤسس وزعيم ورمز الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، بعلاقاته وبرغماتيته وكاريمزيته، خلق فراغا قياديا كبيرا في الساحة الفلسطينية، وبالأخص بالنسبة لفتح، التي كانت فقدت قادة كبارا قبله، من مثل: أبو جهاد، وأبو إياد، وخالد الحسن. ومعروف أن أبا عمار صاغ فتح على طريقته، وتحكم بمفاتيحها، ومشكلة فتح أنها اعتادت على ذلك، الأمر الذي صعّب الوضع على أبو مازن، فلا وضعه وطريقته بالعمل سمحت بذلك، ولا الوقت ولا الظروف ولا الإمكانيات.

لا نقصد من كل هذا الكلام تحميل فتح مسؤولية إخفاق تحرير فلسطين، أو مسؤولية إخفاق العمل الفلسطيني، فثمة محددات وقيودات كثيرة، موضوعية وخارجية أسهمت في ذلك، أهمها، أولا، الخلل الفادح في موازين القوى والمعطيات العربية والدولية، لصالح إسرائيل. وثانيا، أن العمل الفلسطيني نشأ في الخارج، وظل خاضعا لمحددات وقيودات عربية. وثالثا، أن الشعب الفلسطيني مشتت في أكثر من بلد. ورابعا، أن الحركة الوطنية الفلسطينية لم تكن امتدادا لحركة سابقة، وهي تفتقد لتجربة سياسية أو لإرث سياسي، مناسب.

فوق كل ذلك فإن أزمة حركة فتح ليست مجرد أزمة داخلية، إذ إنها تعبير عن أزمة العمل الفلسطيني بمجمله، فهي كما قدمنا أزمة موازين قوى، وهي أزمة إخفاق في تحقيق الخيارات السياسية الوطنية، من خيار المقاومة إلى خيار التسوية، ومن خيار المفاوضة إلى خيار الانتفاضة. وهي أزمة إخفاق في الخيارات الكيانية، من خيار بناء المنظمة، ومعها الفصائل والمنظمات الشعبية، إلى خيار بناء السلطة. وبديهي أن فتح، في كل ذلك، هي المسؤول الأكبر عن اخفاق هذه الخيارات السياسية والكيانية بحكم اضطلاعها بالتفرد بقيادة العمل الفلسطيني في المرحلة السابقة، وهيمنتها على المنظمة وبعدها على السلطة.

ومعنى ذلك أن أزمة فتح هي أزمة الساحة الفلسطينية، وهي أزمة الوطنية والكيانية الفلسطينية.

الآن رب سائل، ولكن ما الحل؟ أعتقد أن الحل يكمن في مراجعة فتح لذاتها، والوقوف وقفة نقدية جادة ومسؤولة وشجاعة، أمام مسيرتها وتجاربها وطبيعة بناها. ولكنني مع ذلك أعتقد أن الزمن قد فات على المعالجة والترميم، وأن هذه الحركة (كما الساحة الفلسطينية)، بحاجة لإعادة بناء وتأسيس جديدين.

التعليقات