31/10/2010 - 11:02

نُقل الحل النهائي وبقله../ زكريا محمد

نُقل الحل النهائي وبقله../ زكريا محمد
ما قاله أولمرت، رئيس وزراء إسرائيل السابق، في كلمته في جامعة تل أبيب، مفيد جدا لفهم العلاقة بين الاستيطان والتفاوض، بين الاستيطان وما يسمى بالعملية السلمية، في الرؤية الإسرائيلية. وهو مفيد لأن قائله شخصية تمتدح كل يوم تقريباً من قبل الرئيس عباس، وتقدم على أنها شخصية كنا على وشك الوصول إلى حل معها.

فماذا قال أولمرت بشأن الاستيطان؟
بدأ بالقول انه أفهم مفاوضيه انه لكي يستطيع أن يفاوض يجب التوقف عن طرح موضوع الاستيطان. فطرحه كشرط يجعل التفاوض مستحيلا. هذا يعني أن الشرط المركزي للتفاوض هو تجنب الاستيطان وتجاهله. لكي تفاوض عليك ان تتجاهل الاستيطان، أي أن تتقبل وجوده عمليا.

والحق أن هذه عقيدة مركزية في السياسة الإسرائيلية منذ عقدين من الزمان، أي منذ بدء المفاوضات على الجبهة الفلسطينية: بدءا من رابين، مرورا ببيريز وشارون ونتنياهو وليفني، وصولا إلى نتنياهو من جديد. هذا ثابت من ثوابت السياسة الإسرائيلية.

يضيف أولمرت موضّحًا: (لم أبذل الطاقات في التعامل مع مبنى هنا ومبنى هناك، بؤرة استيطانية هنا وأخرى هناك، بل بالعملية الشاملة التي لو كتب لها النجاح، لبدت تلك المسائل صغيرة، وأقنعت الأمريكيين والفلسطينيين بذلك).

هذا هو منطق أولمرت سابقا، ومنطق نتنياهو الآن، وهو في الواقع منطق جميع الحكومات الإسرائيلية: الاستيطان قضية ثانوية، يجب تأجيلها ونسيانها، والتركيز على الحل الشامل. الحل الشامل سيحل تلقائيا قضية الاستيطان. وعلى هذا المنطق فقد دعا المجتمع الدولي لمطالبة الفلسطينيين بالرد على العروض الإسرائيلية بدل الانشغال بمبنى هنا وآخر هناك. هذا يعني أنه يؤيد نتنياهو في موقفه، الذي يقول بترك موضوع الاستيطان جانبا.

نتنياهو كان يحاجج: لماذا يضع أبو مازن علي شروطًا لم يضعها على أولمرت وعلى من قبله؟ لماذا كان يفاوض تحت الاستيطان من دون مشكلة؟ ويضيف: لن أوقف الاستيطان، وعليه أن يفاوض تحت الاستيطان، مثلما كان الأمر يتم سابقا.

إذن، فالاستيطان كان، ومنذ البدء، في جوهر ما يسمى بالعملية السلمية، كان في أساسها. لم يكن للمفاوضات ولا العملية السلمية أن تنطلقا لو وضع وقف الاستيطان كشرط لهما. كان هذا مفهوما للمفاوض الفلسطيني عموما، وفي كل الفترات. عليه، فلم يكن الاستيطان خروجا على النص، كان ينطلق من جوهر النص. لم يكن يهدد العملية السلمية، بل كان شرطا من شروطها منذ اللحظة الأولى. هذا ما يتجاهل المفاوض الفلسطيني تبيانه.

بالطبع، الكل بالطبع، عدا إسرائيل، يدرك أن استمرار الاستيطان يهدد النتيجة المفترضة للعملية السلمية، أي قيام دولة فلسطينية على الضفة الغربية أو على أجزاء كبيرة منها. لكنه لم يكن أبدا خرقا لقانون التفاوض ولعبته، ولا تهديدا للعملية السلمية. على العكس فشرط هذه العملية كان منذ البدء تناسي الاستيطان، والتغافل عنه.

ثم حدث أن جاء رجل أسود صار رئساً لأمريكا. هذا الرئيس كان مقتنعاً قبل مجيئه ان توسّع الاستيطان سيلغي فكرة الدولة وفكرة الحل. لذا رفع شعار وقف الاستيطان. هذا شجع السلطة التي كانت ترى الاستيطان يبتلع كل شيء تحت ناظريْها، فرفعت الشعار ذاته: وقف الاستيطان كشرط للتفاوض.

غير أن أوباما اكتشف سريعًا، بل وسريعًا جدا، أن المشروع الاستيطاني ثابت من ثوابت السياسة الإسرائيلية، وأن أحدًا من رؤساء حكومات إسرائيل لن يقدم على وقف هذا الشروع. (إذا أردتم وقف الاستيطان، فلن تكون هناك مفاوضات)؛ هذا هو جواب كل التيارات السياسية الرئيسية في إسرائيل. فالترابط بين الاستيطان والتفاوض عندها ترابط عميق وأصيل، ولا يمكن فصله.

لذا تراجع أوباما، انسحب، وعاد إلى فكرة الاهتمام بالمسائل الكبيرة (!!)، أي الحل النهائي، وترك المسائل الصغيرة (!!)، أي الاستيطان. أي عاد، في الواقع، إلى فكرة ترك المسائل الكبيرة- الاستيطان- والتسلي بكستناء القضايا الصغيرة، أي قضايا الحل النهائي الفارغة.

والحق أن فكرة القضايا الصغيرة والكبيرة لم تكن فقط فكرة أولمرت وغيره من رؤساء حكومات إسرائيل، بل كانت فكرة الرئيس المصري حسني مبارك أيضا. ففي زيارته الأخيرة لواشنطن عمل جاهدًا على إقناع اوباما بتجاهل الاستيطان، قائلا له: يجب نسيان التفاصيل، والتركيز على الحل النهائي.

ويبدو أنه هو من غرس الفكرة عميقًا في ذهن أوباما. ذلك أن مبارك يدرك أن البدء بالاستيطان، أي بالقضايا الجدية، فلن نصل إلى شيء، وستتكشّف استحالة الحل. لذا علينا ترك القضايا الجدية والتسامر حول الحل النهائي. يعني علينا أن نواصل حفلة السمر التي بدأناها منذ 18 عاما. وماذا يهم مبارك في ذلك؟ المهم عنده توريث ابنه جمال. والبدء بالقضايا الجدية يؤزّم الوضع، ويهدد بالانفجار، ويقلل من فرص توريث ابنه.

إذن، اقتنع أوباما بما قاله له مبارك وغيره، واكتشف أوباما انه رفع سقف التوقعات أكثر مما ينبغي. لذا قضينا معه الأشهر الماضية في محاولة لتخفيض سقف توقعات الطرف الفلسطيني. وقد وصلنا تقريبا إلى النهاية بصدد هذه المهمة. فلم يعد أحد في السلطة يتوقع أن يوقف الاستيطان. يعني، الكل يدرك أننا سنعود إلى ما كنا فيه، أي سنعود من جديد إلى التفاوض تحت الاستيطان. لكن بقي فقط طريقة إخراج فكرة العودة إلى ما كنا فيه. ومن أجل هذا اخترعت قصة المفاوضات غير المباشرة والمتقاربة، كأن الشكل هو المهم وليس المبدأ.

غير أن اللعين فهمي شبانة صعّب الأمر على الجميع. فما كاد الناس يبدأون بابتلاع فكرة العودة إلى ما كنا فيه، حتى كشف لنا أشرطته الجنسية. كنا نحضر طاولة المفاوضات فغرقنا في أجواء غرف النوم الحمراء الملتهبة. اللعنة عليك يا شبانه، يا قاطع الأرزاق!

الاستيطان شرط مبدئي للتفاوض، لعملية السلام. فعملية السلام مجرد غطاء للمشروع الاستيطاني. لا يمكنه أن يستمر وأن ينجح من دون هذا الغطاء. هذه هي الحقيقة الكبرى والمركزية التي يتم تضليل الناس عنها. الاستيطان ليس خطأ طارئا، ليس انحرافا عن العملية بل هو أساس وجود العملية عند إسرائيل.

وقد فهم الدكتور حيدر عبد الشافي، رحمه الله، هذا عندما عادوا يلوحون له بورقة أوسلو. قال لهم: كل هذا هباء. إذا لم يتوقف الاستيطان فكله هباء: السلطة هباء، الرئاسة هباء، الوزارات هباء، الأجهزة الأمنية هباء، المجلس التشريعي هباء، الانتخابات هباء، غزة وأريحا هباء. كل شيء إذا لم يتوقف الاستيطان هباء.

ولم يصدقوه. (القادة التاريخيون!!) سخروا منه، وتهكموا عليه. وها هي كلماته تثبت أنها كانت نبوءة قاسية، نبوءة مرة.

وها هم يستعدون للذهاب إلى طاولة المفاوضات للتسلي بالحديث عن المستقبل، عن الحل النهائي. فالحل النهائي سيحدد الحدود ويحل مسألة الاستيطان ضمنيا، ودفعة واحدة. النكتة القديمة ذاتها. الحديث عن المستقبل بينما الحاضر الاستيطاني يأكل كل مستقبل ممكن.

يحسم الإسرائيليون الأمر عبر الاستيطان على الأرض، ويتركون للأستاذ صائب عريقات ان يتسلى باستخراج الحل النهائي على الطاولة. يتركونه يتسلى ببقل الحل النهائي ونُقله. وحين يكون قد خلّص البقل والنُقل والمازة يكون الاستيطان قد حسم القضية كلها،
والسلام عليكم
ورحمة الله
وبركاته!

التعليقات