03/12/2010 - 10:09

إدمان الرهان على أميركا../ سمير كرم

-

إدمان الرهان على أميركا../ سمير كرم
القضية الفلسطينية تتعثر بيدي أميركا أكثر مما تعثرت في اي وقت مضى.
والرهان على أميركا بشأن القضية الفلسطينية ليس جديدا.. إنه يرجع على الأقل الى وقت مشروع روجرز، عندما كانت أميركا في مرحلة الاختبار، بعد وقت قصير من نكسة 1967.

ويمكن ان نقارن الوضع الراهن الذي تسلمت فيه الدبلوماسية الأميركية قضية فلسطين بالكامل، لتكون موضوعاً لمفاوضات ومساومات أميركية إسرائيلية، بالوضع الذي كان يمكن ان يكون في بدايات القرن العشرين. وقتها كان من الممكن ان يتسلم المستشرقون الغربيون ـ بمن فيهم الاميركيون والبريطانيون ـ مسؤولية إنهاء الاستعمار في المنطقة العربية.

وقتها كان يسود شعور بالاعجاب الشديد بالمستشرقين الذين اظهروا معرفة تفصيلية وأحيانا عميقة بالتاريخ العربي والقضايا العربية السياسية والاجتماعية والثقافية. وكان هناك ميل لدى فئة واسعة من العرب ذوي النفوذ، الى تسليم القضايا العربية الى المستشرقين ليؤدوا المهمة مع الحكومات الغربية. اي انه كان هناك ميل لدى اصحاب النفوذ العرب لأن يتولى الغربيون الأمر: الحكومات كطرف والمستشرقون كطرف آخر. لكن هذه الصورة لم تكتمل ولم يتحقق هذا المشروع لأن الغرب كان معنياً أساساً بتقسيم الأمة العربية وكان هدف الاستقلال يتواءم مع أهداف التقسيم. وبدلاً من أن يتولى المستشرقون الغربيون في الحكم وخارجه مهمة الدفاع عن القضايا العربية، فإنهم أدوا دورهم الطبيعي في تعزيز التقسيم العربي.

الآن، لم يعد الدبلوماسيون الغربيون ـ الاميركيون بصفة خاصة ـ يعتبرون مستشرقين ... الا انهم يتولون منفردين، مهام البحث عن حل للقضية الفلسطينية التي كان المستشرقون قد تسببوا فيها من البداية بتسليم فلسطين الى يهود أوروبا، تعويضاً لهم عن ما فعلته النازية الأوروبية باليهود. ويمكننا من دون أن نبتعد كثيرا عن الحقيقة ان نسمي الدبلوماسيين الأميركيين الذين يتولون أمر القضية الفلسطينية في الوقت الحاضر بالمستشرقين الجدد.

فهل يبدو اي اختلاف من حيث مستوى الاهتمام بين المستشرقين الجدد والمستشرقين القدامى؟
لن يبعدنا هذا التشبيه للدبلوماسية الأميركية الراهنة بالاستشراق عن حقيقة ان جهود الأعوام الخمسين الماضية قد ادت الى درجة قصوى من الرهان العربي على اميركا في مهمة البحث عن حل (تسوية) للقضية الفلسطينية التي تحولت الى آخر المعضلات التي يواجهها الحكام العرب، او هكذا يظنون. لهذا يسيطر علينا شعور دائم بضرورة تحليل العامل الذي أدى الى هذا الرهان المزمن على اميركا والدبلوماسية «الاستشراقية» الأميركية لإيجاد حل للمشكلة الفلسطينية. ولعل اهم ما ينبغي الاهتمام به في هذا التحليل ان نعرف اذا كان الرهان على أميركا هو سبب التعثر في محاولات البحث عن حل، او أن التعثر هو السبب الذي ادى الى الرهان على اميركا الى حد الإدمان.

وبتعبير أوضح هل تسعى الدبلوماسية الاميركية فعلياً للخروج من حالة التعثر التي دخلت فيها القضية الفلسطينية في هذه المرحلة، ام ان الوضع الراهن يمثل أفضل الأوضاع الممكنة، لأن الولايات المتحدة تستمر فيه في الهيمنة على الوضع العربي، بينما تبقى إسرائيل بعيدة عن أي خطر عربي يمكن تصوره في ضوء معطيات الوضع الراهن؟

لقد وصل الامر بالإدارة الأميركية الحالية ـ إدارة الرئيس باراك اوباما ـ الى حد تبدو معه وكأنها تقدم لإسرائيل رشى ذات قيمة مادية عالية لكي توافق ـ فقط والتركيز هنا هو على كلمة فقط ـ على تجميد الاستيطان في الضفة الغربية لمدة 90 يوما. ووصل الأمر بالإدارة الأميركية الى حد إسقاط مطلب تجميد الاستيطان حتى لهذه الايام في القدس الشرقية. اي ان إسرائيل حصلت أخيرا بعد ثبات أميركي طال لأكثر من نصف قرن على عدم الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل على اعتراف أميركي بأن القدس الشرقية شأن إسرائيلي تماما، وأن باستطاعة اسرائيل ان تبني فيها ما شاءت من المستوطنات لمواطنيها.

ولم يكن بمستغرب أن يظهر بعد هذا الموقف الأميركي الجديد بأيام مشروع القانون الإسرائيلي الجديد بإعلان القدس ـ الموحدة ـ عاصمة للشعب اليهودي. لقد مهدت أميركا بما فيه الكفاية لهذا المشروع عندما أسقطت القدس الشرقية من عملية التفاوض الثنائية بشأن القضية الفلسطينية بينها وبين إسرائيل. هل استشيرت السلطة الفلسطينية في هذا الشأن؟ ثمة إجابات عديدة كلها قابلة للتصديق: نعم، لا بد أن الولايات المتحدة اطلعت السلطة الفلسطينية على هذا الجانب من صفقة الرشى المقدمة لاسرائيل مقابل 90 يوما من تجميد المستوطنات. لا، ان واشنطن لا تعتبر نفسها مجبرة على التشاور مع السلطة الفلسطينية مسبقاً. ان لديها على الاقل «كارت بلانش» من السلطة الفلسطينية بأن لها مطلق الحرية في ان تعطي لإسرائيل قدر ما تشاء حتى لو كان على حساب الفلسطينيين. وهناك اجابة ثالثة بلا، تعني ان السلطة الفلسطينية فوجئت بالدبلوماسية الاميركية تحذف القدس الشرقية من المفاوضات وتترك أمرها لاسرائيل، بدليل رد الفعل الاولي من السلطة الفلسطينية ازاء صفقة الرشى الاميركية لإسرائيل.

لن يمر وقت طويل قبل ان يتضح أي من هذه الإجابات هو الصحيح.
لكن الأمر الذي يتوجب الانتباه اليه، ان بعض ردود الفعل الصهيونية (وهذا تعبير اشمل من اسرائيل لأنه يشمل انصار اسرائيل الاميركيين من الرسميين وغير الرسميين) ابدى سخرية شديدة من صفقة الرشى الاميركية التي عرضتها ادارة اوباما على اسرائيل، مقابل تجميد الاستيطان في الضفة الغربية فقط لمدة 90 يوما غير قابلة للتكرار. لقد نشر «المعهد اليهودي لشؤون الامن القومي» (مقره في واشنطن) بيانين متلاحقين بشأن هذه الصفقة الاميركية ـ حتى قبل ان تعلن اسرائيل موقفاً نهائياً منها ـ الاول حمل عنوان «شراء السلام، شراء اسرائيل».
 والثاني عنوان «شراء السلام، شراء الفلسطينيين». في البيان الاول قال المعهد: «اثناء ادارة بوش ارسل مبعوث (اميركي) ليسأل ماذا تريد إسرائيل ان تأخذ لكي تشعر انها في أمان في حالة ما اذا اقيمت دولة فلسطينية بدون معاهدة سلام مع اسرائيل. وكان المبعوث يحمل في جيبه حوافز. وقد رده الاسرائيليون مرفوضاً لأنه بدون معاهدة تتناول هموم اسرائيل الامنية لا شيء يعوض عن الامن الذي سيفقد بإزالة اصول من الضفة الغربية وقبول استقلال فلسطيني. ويقال ان المبعوث عاد الى واشنطن محبطاً ومتوتراً من اسرائيل، ولكن فكرة انك تستطيع شراء معتقدات يؤمن بها شعب إيماناً قوياً بقيت حية».

وأضاف البيان الاول من معهد الامن القومي اليهودي في واشنطن «ان ادارة اوباما في الوقت الحاضر تقدم لاسرائيل عرضاً بمجموعة متباينة من الحوافز لكي توافق على تجميد بناء المستوطنات من اجل القفز لبدء محادثات السلام من جديد، وهي المحادثات التي اعلنت الادارة الاميركية انها ستسفر عن اقامة دولة فلسطينية مستقلة في العام المقبل». ويعترض البيان في ختامه على ان المزايدة/ الرشوة التي تعرضها ادارة اوباما قد ركزت فقط على إقامة «فلسطين» (لا تزال الكتابات الصهيونية تتجنب ذكر كلمة فلسطين وتفضل كلمة الفلسطينيين، واذا ما اضطرت الى ذكر فلسطين فإنها تضعها بين مزدوجين).

اما البيان الثاني فيقول «إن ادارة اوباما تعرض على اسرائيل مجموعةا متنوعة من الهدايا والوعود لكي تحفز الفلسطينيين على التفاوض مع اسرائيل من اجل الدولة الفلسطينية التي يبدو ان الرئيس اوباما ملتزم بها. ولا بد ان يكون الفلسطينيون في اشد حالات الابتهاج. فرئيس الولايات المتحدة الى جانبهم، والمناقشة هي حول اقامة فلسطين وليست حول امن اسرائيل».

ولعل اقصر الطرق للتعليق على هذين البيانين من اللوبي الصهيوني هو انهما يرددان ما كان ينبغي ان يكون رد الفعل من جانب السلطة الفلسطينية، خاصة فيما يتعلق بعملية البيع والشراء او عملية تقديم الهدايا والرشى. ولكن يبقى مهما ان نشير الى ما قالته افتتاحية اسبوعية «فوروارد» الصهيونية التي تصدر في نيويورك في عددها الصادر يوم 24/11/2010 من ان صفقة الحوافز من ادارة اوباما لاسرائيل جرت على الادارة الاميركية انتقادات اليمين واليسار من انصار اسرائيل، وخاصة اولئك الذين يعنيهم امنها. والمعنى الحقيقي لهذا ان اسرائيل تفضل عدم استئناف المفاوضات اصلا فهذا هو أحسن السبل لعرقلة مشروع الدولة الفلسطينية، فضلا عن توجيه الاهتمام الى الخطر الإيراني لأنه أخطر على إسرائيل من اي خطر آخر. هل هناك من خطر آخر على أمن إسرائيل في الوقت الحاضر سوى خطر التحالف الإيراني السوري مع المقاومة؟

فاذا ما عدنا بعد هذا الى مسألة الإدمان العربي على الرهان على الولايات المتحدة لا بد من الإشارة الى ان وصول هذا الإدمان على الدور الأميركي بلغ أقصاه مع السلطة الفلسطينية في مرحلتها الأخيرة.. مرحلة رئاسة محمود عباس. وهو أمر خلق شرعية زائفة للمواقف العربية المماثلة. وعلى طريقة عدو عدوي هو صديقي أصبح القول المأثور المتكرر في دهاليز الدبلوماسية العربية، خاصة في دهاليز جامعة الدول العربية ـ هو: أننا نرضى بما يرضى به الفلسطينيون. وليس للفلسطينيين كشعب حساب لدى الدبلوماسية العربية... انما المقصود هو ما تقبل به السلطة الفلسطينية.

ولا حاجة بنا او بغيرنا الى التأكيد بأن الدول العربية السائرة في طريق الرهان على الولايات المتحدة تمارس أقصى ما تستطيع من ضغط على السلطة الفلسطينية لكي تقبل بما تريد ان تقبل به هذه الدول العربية. وليس بعيدا عن مدارك المواطن العربي ان الدول العربية التي انتهجت الخط الاميركي الى اقصى مداه قد علمت السلطة الفلسطينية ان تعادي إيران وأن تعادي سوريا وأن تعادي المقاومة فلسطينية ولبنانية. فهذه هي شروط أميركا. ومن الواضح ان الدبلوماسية العربية «السلمية» تعرف جيدا ان الالتزام بالخط الأميركي يعني ان تكون الأولوية لحل مشكلة الخطر الإيراني.
 
 ولا بد ان يكون مفهوما هنا ان المقصود بالخطر الايراني هو بالتحديد ما تعنيه اسرائيل والولايات المتحدة. وهذا لا يعني فقط خطر الاحتمالات النووية، لأن اميركا واسرائيل تعرفان جيداً ان هذا الخطر من خلْقهما، انما الخطر الإيراني هو خطر الدعم الايراني للحق الفلسطيني والعربي.

لقد تقدم اوباما الى اسرائيل بقائمة الحوافز التي لم تطلب من إسرائيل شيئا سوى تجميد الاستيطان في الضفة الغربية قبل انتخابات منتصف المدة الرئاسية التي اتت نتائجها بما كدر اوباما وشرح صدر نتنياهو. فاذا ما تساءلنا ماذا يكون مصير الادمان العربي على الرهان على اميركا بعد ان اكتسح الجمهوريون مجلس النواب الاميركي، هل تؤدي هذه النتيجة الى تغيير في اتجاهات الدبلوماسية العربية بشأن القضية الفلسطينية؟

الملاحظ أن هذا السؤال لم يطرح من جانب أي من وزارات الخارجية العربية السائرة في طريق السلام الأميركي ـ الاسرائيلي. ومعنى هذا ان الدبلوماسية العربية في غالبيتها لا ترى ان فوز الجمهوريين الذي يزيد قوة إسرائيل في الكونغرس الاميركي لا يقلل من اهمية الرهان ـ استمرار الرهان ـ على الدور الاميركي.

المستشرقون العرب يوجهون سياسات الحكومات العربية مهما كان توجه المستشرقين الأميركيين نحو إسرائيل قويا أو قويا جدا.
"السفير" 

التعليقات