16/12/2010 - 11:22

قبول نتائج النكبة شرط للبقاء / امطانس شحادة*

-

قبول نتائج النكبة شرط للبقاء / امطانس شحادة*
تغيرت إسرائيل كثيرا بعد هبة تشرين الأول وانتفاضة الأقصى في العام 2000، وكذلك تغير المجتمع الفلسطيني في الداخل، في وعيه وتصرفه السياسي. كانت هبه تشرين الأول ذروة تحولات عميقة سرت في صميم وعي المجموعتين منذ منتصف التسعينيات. بعدها، بات واضحا أن الصراع بين الفلسطينيين في الداخل ودولة إسرائيل ما عاد يقتصر على قضايا الصراع الإسرائيلي الفلسطيني فحسب، مثل قضايا إنهاء الاحتلال، والقدس واللاجئين والمساوة الشكلية داخل الدولة، بل تحول الى القضايا الجوهرية الداخلية وطبيعة النظام. منذ ذلك الحين، تمحور النضال في مراجعة نقديّة لبنية النظام والعلاقات بين الأغلبيّة والأقلّـيّة في حدود العام 1948، وتحول الاهتمام ـ في ما تحول ـ إلى مسألة تحد للدولة اليهودية وطرح البدائل من النظام القائم على شاكلة دولة جميع مواطنيها، أو الحكم الذاتي، أو الدولة الثنائية القومية، كشرط ضروريّ لتحقيق المساواة.

وبهذا المعنى، يمكن الادعاء أن السياسات الإسرائيلية المعمول بها منذ النكبة، لكيّ وعي سياسي مهزوم ومتعايش مع المشروع الصهيوني، واحتواء الفلسطينيين في الداخل، وربما أسرلتهم، لم تنجح كما ابتغى المشروع الصهيوني، الأمر الذي اقتضى، إسرائيليا، تغييرا للأدوات والسياسات.
 
أدعي في هذا المقال، أن الإطار العام لتعامل دولة إسرائيل مع الفلسطينيين في الداخل بعد هبة تشرين الأول 2000 صيغ بين أسطر تقرير «لجنة أور»، وترجم إلى برامج وسياسات عملية في «لجنة لبيد» (لجنة وزارية لدراسة كيفية تطبيق توصيات لجنة اور برئاسة وزير القضاء السابق تومي لبيد)، وبدأت إسرائيل بتنفيذها منذ حكومة شارون. وأدعى أيضا أن دولة إسرائيل تقوم بتقويم نتائج السياسات المعمول بها ومدى تحقيق الاهداف بشكل دائم، ومن ثم تعمل على تحيين (حتلنة) السياسات المعمول بها تجاه الفلسطينيين في الداخل.

بعد هبة تشرين الأول عينت حكومة إيهود باراك «لجنة أور» للتحقيق في تلك "الأحداث". وقد نشرت اللجنة توصياتها في العام 2003، ووصفت مجالات التمييز والغبن تجاه الفلسطينيين، وتطرقت، في ما تطرقت، بإسهاب، الى التحولات في الوعي السياسي لدى المجتمع العربي ومسببات ذلك. وما يهمنا هنا ما يخلص له التقرير "أن المجتمع العربي يمر بعملية تطرف سياسي نتيجة تنامي قوة التيار القومي (التجمع الوطني الديموقراطي) والتيار الإسلامي المتطرف (الشق الشمالي)"، وفق ما ورد حرفيا في التقرير.
 
 كما تناول التقرير تحليل الأسباب التي أدت إلى رفع سقف المطالب السياسية للأقلية العربية منذ ثمانينيات القرن المنصرم، والتحول النوعي نحو زيادة وزن الهوية الفلسطينية والمطالب القومية وأهميتهما، بعد أن كانت المطالب مقتصرة على مساواة ظروف الحياة اليومية وتحسينها من دون ربطها بنوعية النظام السائد والطابع اليهودي للدولة. أي أصبح العرب يتطرقون إلى لب الصراع غير مكتفين بالقشور، وعلى وجهة الخصوص تغيير نظام الدولة الى دولة كل مواطنيها.

على ما يبدو، استنتجت الدولة من تقرير «لجنة أور» وتقرير «لجنة لبيد»، أنها تستطيع الاستمرار بمنهجية التمييز والغبن تجاه الأقلية العربية، من دون المخاطرة بتدهور الأوضاع الى مصادمات بين الدولة والأقلية، بشرط أن تتعامل مع المسببات والدوافع السياسية، وفقا لتحليل الدولة، التى أدت الى تلك المواجهات.
 
ونقصد هنا أن الدولة والمؤسسات الأمنية وصلت الى قناعة أن منع تكرار المصادمات لا يحتم تغير الظروف المعيشية للمواطنين العرب ومكانتهم السياسية والاجتماعية، أو تغيير نوع النظام السائد، بل يحتم التعامل مع أسباب «التطرف السياسي»: مثل كبح الأحزاب السياسية والحركات السياسية التي اتهمت بالتطرف، واحتواء لجنة المتابعة واللجنة القطرية للسلطات المحلية العربية، وفرض قيود وصعوبات على عمل مؤسسات المجتمع المدني وترويضها، بالإضافة إلى احتواء الجيل الشاب وقمع تنامي الوعي الوطني للفلسطينيين في الداخل. وقد بدأ تطبيق هذه القناعات منذ حكومة شارون الثانية عام 2003 وتطور تدريجا منذ تلك الفترة بحسب تقييم النتائج من منظور إسرائيلي.

بدأت حكومة شارون تطبيق القراءة الإسرائيلية لتوصيات «لجنة أور» وترجمتها على أرض الواقع بواسطة مشاريع قوانين وسياسات. كانت البداية مع تعديل «قانون المواطنة ودخول إسرائيل» الذي يمنع لمّ شمل عائلات فلسطينية أحد أزواجها من المناطق الفلسطينية المحتلة، بغية التعامل مع ما يسمى إسرائيليا الخطر الديموغرافي للفلسطينيين؛ ثم سنّت قوانين تعيد رسم حدود اللعبة السياسية وتقليص هامش الديموقراطية الإسرائيلية (المحدود أصلا) منها فرض الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية كشرط لنيل الحق في الترشيح للانتخابات وشرط لتسجيل أحزاب سياسية؛ منع الترشيح للبرلمان لكل من يدعم «النضال المسلح» (المقاومة الفلسطينية واللبنانية بالأساس) ضد دولة إسرائيل؛ منع التواصل مع العالم العربي تحت حجة منع زيارة «دولة عدو»؛ إضافة الولاء للدولة كدولة يهودية وديموقراطية في قسم الولاء لأعضاء الكنيست. الى جانب استمرار نهج الترهيب والترغيب المعمول به لدى السلطة التنفيذية وتوكيل التعامل مع الفلسطينيين الى «مجلس الأمن القومي» ثم الى «المخابرات العامة ـ الشاباك».
 
الصفة العامة التي ميزّت تلك المرحلة كانت تقييد العمل السياسي الحزبي والحقوق السياسية ووضعها تحت سقف الإجماع الصهيوني، وفرض الاعتراف بيهودية الدولة لنيل الحق في الترشيح والمشاركة السياسية الحزبية البرلمانية، من دون أن تحاول الدولة فرض الاعتراف بيهودية الدولة بالقانون على المواطنين الفلسطينيين. لكن تلك السياسات فشلت في لجم مطالب الفلسطينيين في الداخل أو في تغير الوعي السياسي القومي الاخذ في التنامي. ولم تنجح إسرائيل في طمس الهُوية الوطنية والانتماء الفلسطيني، أو في صقل وعي سياسي يفرض على الأقلـية أنماط تصرّف سياسي مقبول على المجتمع الإسرائيلي.
 
وقد ترجم فشل الدولة في نشر مؤسّسات أهليّة فلسطينيّة وثائقَ رؤيةٍ مستقبلية في نهاية 2006 وبداية 2007، تطالب بإعادة صوغ علاقة الدولة والأقلـية الفلسطينية واعتبار الأقلـية الفلسطينية أقلـية وطن أصلية لها حقوق جماعية، والمطالَبة بتغيير النظام إلى دولة ثنائية القومية. وقد عزز موقف الفلسطينيين وتصرفهم خلال الحرب على لبنان ثم الحرب على غزة، وانهيار التصويت للأحزاب الصهيونية وتنامي التصويت للأحزاب العربية في انتخابات 2006 و 2009، الفشل الإسرائيلي في كبح الانتماء القومي والإجماع السياسي الجديد للفلسطينيين في الداخل.

في اثر عدم نجاعة السياسات التي انتهجت منذ هبة تشرين الأول، من حيث عدم تغير الموقف والتصرف السياسي للفلسطينيين أو كبح الطموحات السياسية وعدم خفض سقف المطالب السياسية الى لقمة العيش اليومي، جاءت انتخابات العام 2009 لتشكل منعطفا لمرحلة جديدة في تعامل الدولة مع الفلسطينيين، قد تكون من أشد المراحل خطراً في تعامل الدولة مع الفلسطينيين، من حيث نوع المطالب المواجهة الى الفلسطينيين في الداخل وأساليب فرضها.

إن بوادر الانتقال إلى مرحلة جديدة برزت في فترة الحملة الانتخابية التي ترافقت مع الحرب الإسرائيلية على غزة. حينها تحولت الأقلـية الفلسطينية إلى أحد أبرز مواضيع الحملة لدى بعض الأحزاب الصهيونية، ولا سيما حزب «يسرائيل بيتينو» بزعامة أفيغدور ليبرمان. وقد تعالت الأصوات المطالِبة بلجم البعد القومي في هُوية الفلسطينيين وفرض قواعد للتصرف السياسي اللبق والمقبول بواسطة القانون، وربط الحقوق بالاعتراف بدولة إسرائيل كدولة يهودية وصهيونية.

بعد فوز تيار الصهيونية المتجددة (نيو ـ صهيوني) اليميني المتطرف في الانتخابات، كان واضحا أن الحكومة الجديدة، بل المجتمع الإسرائيلي بكافة شرائحه ومكوناته السياسية الحزبية، لن يقبل باستمرار الوضع السياسي القائم للفلسطينيين. بل ستنتقل السياسات إلى التهديد المباشر والمساومة على المواطَنة الممنوحة للأقلـية. وسوف يكون مطلوبا من الأقلـية الفلسطينية حسم موقفها على نحو نهائي في مسألة قبول الشروط الإسرائيلية للإبقاء على المواطَنة. وبعد قرابة العامين على الانتخابات وأكثر من عام ونصف العام على تأليف حكومة نتنياهو، نرى أن المطالب من الفلسطينيين في الداخل تتمحور في:

ـ القبول بمواطنة تحت سقف الشروط الإسرائيلية، والتخلي عن الهوية القومية الجماعية ومطالب الحقوق الجماعية لأقلـية وطن أصلية، والاكتفاء بالحقوق الفردية المنتقَصة.
ـ منح الشرعية لدولة إسرائيل كدولة الشعب اليهودي.
ـ قبول الادعاء الإسرائيلي بأن تحقيق المَطالب القومية للفلسطينيين في إسرائيل سيكون من خلال حل دولتين لشعبين وإقامة دولة فلسطينية .
ـ قَوْنَنة نهائية للمكانة الدونية للفرد الفلسطيني في إسرائيل في جميع المجالات.
 
لا يقتصر التحول الى مرحلة جديدة على نوعية أهداف الدولة ومطالبها من الفلسطينيين فحسب، بل هناك تحول لا يقل أهمية في آليات ترجمة تلك الأهداف على ارض الواقع. اذ تسعى الدولة الى قمع الوعي القومي والهوية القومية، ومحاولة فرض يهودية الدولة واشتراط المواطنة بالولاء بواسطة قوانين تتعامل مع الأفراد وليس مع المجموعة أو الأحزاب السياسية، وهذا أمر جديد. فبعد أن قامت الدولة منذ حكومة شارون بتغيير قواعد اللعبة السياسة وحقوق المشاركة السياسية بالقانون، تقوم الآن على فرض تصرف سياسي واشتراط حقوق سياسية وحقوق إنسان أساسية بواسطة القانون وعلى مستوى الأفراد.
 
 وقد قام الكنيست بدعم من الحكومة منذ العام 2009 بسن عدد كبير من القوانين وقبول عدد أكبر من اقتراحات القوانين التي تربط الولاء لدولة إسرائيل كدولة يهودية صهيونية بحقوق المواطن. فقامت بسن قانون لمنع إحياء النكبة وفرض عقوبات مالية على كل مؤسسة تمويلها من الدولة وتقوم بإحياء يوم النكبة؛ وقامت بسن قوانين تهدف إلى معاقبة النواب العرب بسبب مواقفهم ونشاطاتهم السياسية؛ واقتراحات قوانين لفرض «الخدمة القومية» على الفلسطينيين بهدف تعزيز الهوية الإسرائيلية لدى الشبان والشابات العرب وخلق هوية مشوهة؛ واقتراح قانون سلطة أراضي إسرائيل الذي يهدف إلى تكريس التمييز ضد المواطنين العرب وتعزيز تهويد النقب والجليل، تحت غطاء «منح تسهيلات ومكافآت» للجنود المسرحين ولمن يؤدي الخدمة «القومية»؛ واقتراح قانون يتيح «للقرى التعاونية» اشتراط الاعتراف بيهودية القرية التعاونية وصهيونيتها كشرط لقبول سكان جدد.
 
هذه التعديلات والقوانين الجديدة، تعني في ما تعني، محاولة فرض الاعتراف بيهودية الدولة على الفلسطينيين في إسرائيل بواسطة القانون، واشتراط حقوق طبيعية بموقف سياسي، أو بالأحرى بالتنازل عن الهوية الفلسطينية. تجديد إضافي للآليات المعمول بها هو إرفاق تهديد مبطن للفلسطينيين، مفاده أنه في حال عدم الرضوخ للشروط الإسرائيلية، سوف يأتي التهديد بحل تبادل الأراضي أو السكان مع السلطة الفلسطينية.
 
 إن تطوّرات الخطاب الإسرائيلي الجديد ضد الفلسطينيين، ما هو إلاّ تراكم لما حدث خلال العقدين الأخيرين في تدهور علاقات الأغلبية والأقلـية في إسرائيل، من جهة، وتزايد قبول طروحات أحزاب اليمين ـ الصهيونية الجديدة في شرائح واسعة من المجتمع والأحزاب الإسرائيلية في ما يتعلق بالتعامل مع الفلسطينيين في إسرائيل والتشديد على الطابع اليهودي لدولة إسرائيل. ويمكن اعتبار السنوات الأخيرة كمرحلة الهوس الإثني اليهودي، حيث يجري التشديد على هُوية الدولة اليهودية وطابعها الإثني، من خلال تعزيز هذا الطابع عَبْر إجراءات سياسية وقانونية لم يسبق لها مثيل، ومحاولة فرض الشروط الإسرائيلية على الفلسطينيين، لقبول نتائج النكبة كشرط للبقاء في بلادهم.
 
 في المقابل تضع إسرائيل معوقات إضافية أمام العمل السياسي للفلسطينيين لمواجهة هذا الإقصاء، بواسطة تقييد عمل الأحزاب العربية، والمجتمع المدني الفلسطيني، والحراك السياسي الشعبي. لكن، على غرار تجربة 62 عاما منذ النكبة، يمكننا التكهن بأن مصير السياسات الحكومة الراهنة سيكون كمصير السياسات السابقة، ولن يساوم الفلسطينيون على حقوقهم القومية، ولا على الهوية الفلسطينية، ولن يتنازلوا عن وجودهم على أرض الوطن.
 

** نشر هذا المقال في العدد الثامن من ملحق "فلسطين" لصحيفة السفير اللبنانية

التعليقات