22/12/2010 - 13:00

مأزق "التسوية" واستحالة "الحياد"../ علي جرادات

-

مأزق
تحت سمع العالم وبصره، وبفعل حكومة نتنياهو-ليبرمان، أكثر حكومات إسرائيل تطرفا وفاشية، وعلى وقْعِ تفكك النظام الرسمي العربي وعجزه عن تفعيل القدرات العربية، تتلاحق بتسارع غير مسبوق عمليات استكمال الإستيلاء على الأرض الفلسطينية وإستيطانها وتمزيقها وسلخها عن بعضها البعض، وتتنامى تناميا بكتيرياً إجراءات الحصار وهدم المنازل وحرق المزروعات والإعتداء على المقدسات والتضييق على السكان بهدف تهجيرهم، وتتكاثر كتكاثر الفطر في يوم ماطر آليات التهويد ومأسسته في قوانين تشرٍّع التطهير العرقي بكل ما في الكلمة من معنى.
 
 ويتكلل كل ذلك بقرار إدارة أوباما وقْف تمنياتها على نتنياهو بالتجميد المؤقت والجزئي للأنشطة الإستيطانية، ومكافأته بإعلانها عن تهديد الفلسطينيين، والوقوف لهم بمرصاد "الفيتو"، إن هم أقدموا على خطوات "أحادية" للدفاع عن أنفسهم في وجه حرب سلاحها الاستيطان والتهويد والحصار والتهجير والتمزيق، أو إن هم استجاروا بالمؤسسات الدولية وقوانينها وقراراتها لوقف هذه الحرب. وإن شئنا تجاوز الوصف الى التفسير، يغدو ميسوراً استنتاج حقيقتين، على النخب القيادية الفلسطينية، على اختلاف مشاربها وألوانها الحزبية، الوقوف أمامهما بجدية ومسؤولية، وبعيداً عن أية مناكفات داخلية لا طائل منها، والحقيقتان هما:
 
الحقيقة الأولى: إن الساسة الإسرائيليين عموما، ناهيك عن نتنياهو وليبرمان، ما زالوا مسكونين بسيكولوجيا بناء "الدولة القلعة" المفروضة بعوامل القوة وفرض الوقائع، رغم أنف العرب والمحيط الإقليمي والعالم ومؤسساته وقوانينه وقراراته. ما يعني خرافية إمكانية سماح تركيبة نظامهم السياسي لتسوية سياسية للصراع، فما بالك مع وقوف نتنياهو-ليبرمان على رأس سلطة هذا النظام؟؟!!
 
الحقيقة الثانية: إن الساسة الأمريكيين، على اختلافهم، وإن رغبوا، في أن تكون إسرائيل "دولة طبيعية"، كحال بلجيكا في أوروبا مثلا، إلا أن تركيبة النظام السياسي الأمريكي، مع التمايز النسبي بين إداراته، لا تسمح بالضغط على إسرائيل، حدّ إجبارها على قبول تسوية سياسية للصراع، تلبي الحد الأدنى من الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، كما نصت عليها قرارات المؤسسات الدولية وقوانينها. ما يعني خرافية إمكانية حيادية أمريكا تجاه القضية الفلسطينية، والصراع العربي الإسرائيلي عموما.
    
هاتان هما الحقيقتان المرتان اللتان على الفلسطينيين مواجهة استحقاقاتهما، إن هم شاؤوا دمج الوصف بالتفسير في تشخيص واقعهم، كي يغدو بحثاً في الصيرورة، ويكون نصفاً للعلاج ، الذي يصبح والحالة هذه واضحا، ويمكن الوصول إليه. وتشخيص كهذا لمأزق محاولات تسوية الصراع مع الإسرائيليين، يقود إلى حقيقة أنه ما دامت السيطرة على الأرض هي جوهر الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فإن إمكانية التسوية بينهما مستحيلة مع الإستيطان والتهويد، فما بالك مع تناميهما البكتيري بفعل  حكومة نتنياهو-ليبرمان، ودعم أمريكا كراعٍ لمفاوضات محاولات تسوية الصراع، منذ "مؤتمر مدريد" قبل عشرين عاماً.
  
إذ يُذكِّر موقف نتنياهو-ليبرمان الرافض لوقف عمليات الإستيطان والتهويد، الرفض الذي تعزز بوقْفِ تمنيات إدارة أوباما على نتنياهو بتجميد مؤقت وجزئي للأنشطة الاستيطانية، ببدايات إصرار الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بدعم أمريكي، على حشر عملية التفاوض مع الفلسطينيين في الجوانب الإجرائية، فبعد انفضاض "مؤتمر مدريد" أواخر عام 1991، وتحديدا يوم 13/1/1992، انتهت ما عُرِفت بـ"مفاوضات الكرادور" التي دامت ثلاثة أيام، يومها كانت المفاوضات في واشنطن، وشهدت أزمة إجرائية حول جلوس الفلسطينيين (الأعضاء في الوفد الأردني): أين وكيف يجلسون؟ في حينه طالب الفلسطينيون التعامل معهم كوفد مستقل، بينما أصر الإسرائيليون على أن الفلسطينيين أعضاء في الوفد الأردني. واستمر الطرفان (الإسرائيلي والأردني ومنه الفلسطينيون) يتفاوضان في كرادورات وزارة الخارجية الأمريكية. ولم يدخلا الغرف المخصصة للمفاوضات إلا بعد الإعلان عن اتفاق حل وسط حول الموضوع الإجرائي؛ وقضى الاتفاق بأن يتفاوض الوفد الأسرائيلي مع الوفد الأردني (الاردني الفلسطيني المشترك) من خلال لجنتين منفصلتين: لجنة من الأعضاء الأردنيين، تبحث في القضايا العامة، وخاصة العلاقات المستقبلية بين الأردن وإسرائيل؛ ولجنة من الأعضاء الفلسطينيين، تبحث في الاجراءات التي ستتخذها إسرائيل في الأراضي المحتلة عام 1967. وبهذا الحل الوسط استطاع الوفد الفلسطيني القول إنه مستقل، بينما تعامل الوفد الإسرائيلي معه كجزء من الوفد الأردني.
 
بذلك الحل الوسط خرجت المفاوضات من "الكرادور" لتدخل إلى ردهات عملية تفاوض عديمة الأفق حول المضمون. فبعد تسعة أشهر من مفاوضات "الكرادور" (كما يقول أبو علاء في كتابه مفاوضات أوسلو)، وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود بفعل رفض الوفد الإسرائيلي طلب رئيس الوفد الفلسطيني آنذاك، المرحوم حيدر عبد الشافي، وقف عمليات الاستيطان كشرط لمواصلة المفاوضات، التي لم تكن لتستمر لولا حيلة رابين "الأوسلوية" بتقسيم قضايا المفاوضات إلى مرحلتين، "انتقالية" و"نهائية"، واعتبار قضية المستوطنات واحدة من "قضايا الوضع النهائي"، التي كان من المفترض التوصل إلى حل بشأنها في مدة زمنية لا تتجاوز أيار 1999، ولكن شيئاً من هذا لم يحصل، بما في ذلك قضية المستوطنات، التي لم تتفكك، بل زادت وتيرة وقائعها بصورة يغدو حديث الأمريكيين معها عن إقامة "دولة فلسطينية قابلة للحياة"، حديثا بلا رصيد واقعي، ولا يعدو كونه طُعْماً لاستمرار استدراج الفلسطينيين نحو المزيد من الإنهاك والتفكك والتشرذم السياسي والنضالي، واستمرار حشر قضيتهم وحقوقهم في طريق دائرية بلا نهاية، لم تفضِ، ولن تفضي، إلا إلى العبث والمرواحة في المكان، ناهيك عن إعاقتها للبحث الجاد في البدائل السياسية والميدانية، التي أصبحت ضرورة لا مناص منها، رغم ثقل أعبائها، كونها لا تنطوي على مواجهة الاحتلال وإجراءته الاستيطانية والتهويدية فقط، بل أيضا على تحدي الدعم الأمريكي لهذا الاحتلال.
 
والأنكى، أن تكون هذه البدائل ضرورة مفروضة في ظل عجز وتفكك رسمي عربي غير مسبوق، لكن يبدو أن هز شجرة هذا العجز وذاك التفكك، بهدف إعادة العرب، رسميا وشعبياً، الى جادة مسؤولياتهم القومية تجاه "قضيتهم الأولى"، وانعكاساتها على أمنهم القومي، لن يكون إلا عبر إمساك الفلسطينيين مجددا بزمام المبادرة، في خطوات مخططة وواعية ومدروسة، تبدأ بتوحيد صفوفهم، كشرط لازم لبناء إستراتيجية مواجهة وطنية تصمد وتتصدى لمأزق متعدد الوجوه، ربما لا مبالغة في القول: إنه الأقسى والأعقد منذ مأزق ما بعد "النكبة" عام 1948. فمعادلة مأزق الفلسطينيين الراهنة، رغم تعقيدها، وتشابكاتها العربية والإقليمية والدولية، أصبحت واضحة المعطيات، وتحتاج قرارا حاسماً.  

التعليقات