08/01/2011 - 14:36

جريمة الإسكندرية: إما الانحطاط وإما النهوض../ بسام الهلسه

-

جريمة الإسكندرية: إما الانحطاط وإما النهوض../ بسام الهلسه
* مقاربتان لا بدَّ من اتباعهما، والنظر من خلالهما، لفهم ومعالجة، الاعتداء الإجرامي على "كنيسة القديسين" في منطقة سيدي بشر في الإسكندرية، وذيوله:
- مقاربة أمنية تستهدف ملاحقة وكشف المجرمين وتقديمهم للعدالة.
- مقاربة معرفية- إستراتيجية شاملة، تستهدف البحث في حالة الاحتقان والتوتر الديني في مصر، ومعالجتها.
 
في المستوى الأول: الأمني، لا أرى فائدة في توجيه الاتهامات الى جهات محددة ("إسرائيل" و"القاعدة" غالباً)، التي سارع إلى إطلاقها عدد كبيرممن وصفتهم وسائط الإعلام بـ"الخبراء" أو"الباحثين"، مُستبقين إكتمال التحقيق الذي يفترض في المعنِيين انتظار نتائجه التي قد تكون مغايرة- وربما مفاجئة- لجميع الفرضيات والتوقعات.
 
هذا الكلام لا يعني أننا نستبعد مسؤولية أيٍّ منهما من فرضية الاتهام، لكن الفرضيات الأولية شيء، ومسار التحقيق وقرائنه وأدلته شيء آخر. فتشابه اأسلوب تنفيذ الاعتداء مع أسلوب عمل "القاعدة"، كما رأى أحد المُعلقين، لا يسمح بالجزم بأنها هي الفاعل. فالأساليب قابلة للاستعارة والتقليد، سواء من قبل جماعة جديدة تأثرت بدعاوى "القاعدة"، أو من قبل جهة منظمة ذكية تستهدف التمويه على نفسها وتضليل التحقيق.
 
كذلك لا يجوز تأسيس الاتهام بناء على تهديدات أطلقتها جماعة في العراق - تقول إنها إسلامية- توعدت بالثأر لمسيحيتين مصريتين أسلمتا واحتجزتهما الكنيسة القبطية. فمن السهولة بمكان دخول طرف آخر له مصلحة على الخط واقتناص الفرصة. ينسحب هذا الرأي على "إسرائيل"، صاحبة المصلحة الأكيدة في زعزعة استقرار مصر وإضعافها، وصاحبة المشروع المعروف بتفكيك الدول العربية القائمة إلى كيانات طائفية وعِرقِية متنافسة تكون هي المُهيمنة عليها، وصاحبة السوابق الإجرامية، ليس ضد العرب المسلمين والمسيحيين فقط، بل وضد اليهود العرب الذين رفضوا، أو لم يستجيبوا، لمشروعها الاستعماري العنصري، كما فعلت بيهود العراق الذين قامت عناصرها الاستخبارية بإلقاء المتفجرات في أحيائهم لدفعهم للهجرة إلى فلسطين. وكذلك فعلت بحليفتها الولايات المتحدة، التي ظنت بأنها تميل إلى التقارب مع مصر، فكلفت استخباراتها بتنفيذ عمليات إرهابية ضد مؤسساتها ومراكزها فيما عُرف بـ"فضيحة لافون".
 
                    *     *     *
 
إذاً، ومع عدم استبعاد فرضية مسؤولية إحدى هاتين الجهتين عن الاعتداء، إلا أن علينا أن ننتظر ما يقوله التحقيق الذي هو صاحب الكلمة الفصل. لكن انتظار معرفة ما هو مجهول حتى الآن، لا يجب أن يحول دون مباشرة العمل فيما هو معلوم، أي: الهدف الذي سعى اليه من أمر بارتكاب الجريمة، وخطط لها. فالهدف واضح بجلاء: خلخلة الأمن الوطني المصري، ودفع المجتمع نحو اضطراب وفتنة دينية، تستغلها كذريعة أطراف خارجية- وربما داخلية- ذات أجندات خاصة مغرِضة. 
 
إدراك ووعي هذا الهدف يقودنا إلى الاشتغال على المقاربة الثانية: المعرفية- الإستراتيجية. وهذه المقاربة لا تتعلق بالقيادة المصرية فقط، ولا بأجهزة الدولة فحسب، بل تتعلق بالشعب المصري كله: بجميع قواه، ومكوناته، ومؤسساته، وعناصره. وتتعلق ثانياً بالعرب- دولاً، وقوى وشعوباً- إذا ما أرادوا حقاً أن يكونوا أمة، ووطناً، ودولة معاصرة، لا مجرد مجاميع وأخلاط بشرية متنافرة مكونة من طوائف وأعراق وقبائل ومناطق قابلة للتفكيك، كما يجري الآن في السودان، وكما فعل الاحتلال الأميركي بالعراق تطبيقاً لمشروعه للشرق الأوسط الجديد.
 
                     *     *     *
 
غياب مشروع الاُمة الواحدة، والدولة العادلة، بهويتها الجامعة لكل عناصرها وأفرادها كمواطنين متساوين لهم حق المشاركة بحُرية في كافة شؤون بلادهم بدون قهر أو حرمان أو تمييز، هو المسؤول الأول والبيئة الحاضنة لحالة الاحتقان، والتوتر، والنزاع الأهلي الداخلي من جهة، ولحالة الضعف والتبعية، والاختراق الأجنبي المعادي من جهة ثانية. فالبديل عن هذا المشروع، هو ما نراه قائماً: اُسَر وجماعات محدودة، تتحكم في كياناتٍ قطرية، مجزأة، متخلفة وعاجزة على كل المستويات: الدفاعية، والأمنية، والتنموية، والهوياتية..
 
وإذ تحصر همَّها في تعزيز هيمنتها وثرواتها، فإنها تتعامل مع شعوبها بعقلية وأسلوب الجماعات الغريبة المُتغلِبة: القمعية، الجابية، الناهبة، المستهترة. ومع معرفتها بما تجره هذه السياسة من نقمة شعبية عليها، فإنها تحتمي بالتبعية للخارج- للولايات المتحدة خصوصاً- وتطبِّع العلاقات مع عدو الاُمة "إسرائيل"، فيما تعمل بدأب على التلاعب بالشعوب- كي تضمن عدم اتحادها في المطالبة بحقوقها المستباحة- من خلال تأليب عناصرها وجماعاتها على بعضها البعض الآخر في الدولة الواحدة، أو تعبئتها ضد شعوب الدول الاُخرى لتصدير مشاعر الغضب والكراهية نحوها. ومن بين جميع مؤسسات الدولة والمجتمع- الاقتصادية والعمرانية والتعليمية والتربوية والصحية والثقافية والدفاعية..- التي تتركها نهباً للتخلف والإهمال، فإنها تحرص أكثر ما تحرص على تقوية الأجهزة الأمنية، وتطوير أدوات الجباية ووسائل الإثراء.
 
                    *     *     *
 
هذه المقاربة للمناخ المُولِد للتوتر والإحتقان والتمزق الداخلي، لا تعني الاستنتاج بأن مصر، والعرب عموماً، مصابون بعطبٍ بنيوي عضال ملازم لطبيعتهم وشخصيتهم الحضارية. وقد يفيد هنا التذكير بأن هذا الوضع المتردي البائس، ما هو إلا رِدَّة انحطاطية طارئة عمَّا سبق إنجازه من تعايشٍ مديد للتعدد الديني، وتشاركٍ في الحضارة منذ الفتح العربي الإسلامي في التاريخ الوسيط، وعمَّا تم إحرازه من توحُّد واندماج في التاريخ الحديث: سواء في سياق المجابهة الوطنية للاستعمار، أو في سياق بناء اأمة جديدة.
 
 أشير هنا- كأمثلة فقط- إلى ما حققته مصر من وحدة وطنية منذ ثورة 1919م وعمَّقته ثورة يوليو- تموز1952، وإلى ما حققته سورية منذ إقامة الحكومة العربية، وأكَّدته  ثورة العشرين ضد الاستعمار الفرنسي الذي سعى إلى تفسيخها إلى أربع دول دينية- طائفية، وإلى ما حققه عرب وأمازيغ الأقطار المغربية من وحدة وطنية ضد المستعمرين: الفرنسيين والإسبان والطليان. أما المثال الفلسطيني، لوحدة المسلمين والمسيحيين الوطنية، فهو حَيُّ نرى تجلياته وشواهده.
 
لا نذكِّر بهذه الحقائق لنطمئن على أحوالنا متوهمين أن الأمور بخير، فهي ليست كذلك، ونحن نواجه مخاطر جادة تهدد وجودنا وأمننا القومي ونسيج مجتمعاتنا. نذكِّر بها، لحفز إراداتنا وهِممِنا للقيام بالعمل الواجب: مشروع نهضوي ينطلق من رؤية إستراتيجية شاملة، يحصِّن الاُمة ضد المخاطر والتهديدات المختلفة، ويستجيب لاحتياجاتها وآمالها كاُمة حيَّة تمتلك مصيرها، وتريد أن تحضر بكرامة في الحاضر المُهان المُستلب، وأن تعِدَّ للمستقبل الآتي الذي تستحق..
 
                    *     *     *
 
وما من خيار آخر: إمّا الانحطاط  وإما النهوض.
 

التعليقات