17/01/2011 - 07:24

انفراج ديمقراطي شكلي../ سلامة كيلة*

-

انفراج ديمقراطي شكلي../ سلامة كيلة*
تطوّر الوضع التونسي إلى اللحظة التي فرضت هرب الرئيس زين العابدين بن علي. ولم يفد التهديد الذي مارسه الرئيس السابق، ولا أفادت الوعود التي أطلقها في لحظاته الأخيرة. ولن يفيد الحلّ الذي أخرج به الهرب، ويجري فيه نقل السلطة إلى رئيس الوزراء. وقد لا ينجح الحلّ «الدستوري»، الذي أتى برئيس البرلمان رئيساً مؤقتاً، يعمل على الإعداد لانتخاب رئيس جديد خلال مدة لا تتجاوز ستين يوماً.

ما يجري العمل على أساسه، هو إعادة إنتاج السلطة، من خلال إبعاد الرئيس وتحميله كلّ وزر الماضي، واستقطاب بعض أحزاب المعارضة، وبالتالي إبقاء السيطرة الطبقية للفئات ذاتها. فالخطوات أخذت على أساس الدستور، الذي صاغه زين العابدين بن علي، ويحدد شكل الصيغة «الديموقراطية» التي كانت تمارس. صيغة تبقي الحزب الدستوري هو المحدِّد لشخص الرئيس المقبل، من خلال البرلمان الحالي، الذي يهيمن عليه. وتبقي أيضاً أجهزة السلطة ذاتها، البوليس والبيروقراطية، اللذين حكما طوال ربع قرن في عهد بن علي، هي المقررة لنتائج الانتخابات التي ستجري.

وبالتالي، يجري التركيز على الدمقرطة وحرية الأحزاب والصحافة، وإشراك المعارضة في السلطة، بينما تبقى البنية الاقتصادية كما هي، وتظل الطبقة الرأسمالية المافياوية هي ذاتها، ربما مع إبعاد مافيا العائلة، وربما لمصلحة مافيا عائلة جديدة.

هذا ما أوضحته التجربة، حينما يجري «التغيير» على أرضية السلطة ذاتها، ووفق القوانين ذاتها، والأهم وفق البوليس والبيروقراطية ذاتها. فيكون هناك مرحلة انفراج ديموقراطي، وحرية سياسية، لكن من دون لمس المشكلة الأساس التي قادت إلى تفجُّر الانتفاضة. وهي مشكلة النمط الاقتصادي الذي تكوّن خلال العقود السابقة، الذي أفضى إلى الإفقار الشامل من جهة، والبطالة الواسعة من جهة أخرى. بالتالي، تتراجع نخبة السلطة قليلاً، من خلال تحقيق الانفراج «الديموقراطي»، وإشراك بعض المعارضة في السلطة، وإعطاء الوعود بتحقيق كثير من المطالب. وتستغل «نخبة» من السياسيين «المعارضين» كل هذا الانفجار الاجتماعي، الذي يعبّر عن مشكلات عميقة تفضي إلى الانتحار أو الموت جوعاً، من أجل القفز إلى السلطة، وإن كان ذلك يتحقق من موقع الهامش والملحق، لأنّ البيروقراطية الحزبية القديمة (الحزب الدستوري) ستبقى هي الممسكة بمقاليد السلطة. وهي «اللعبة» التي يراد لها أن تمتص الأزمة، وترحّلها إلى أمد أبعد.
 
لا بد لكل هذا الانفجار الاجتماعي، كي يحقق أهدافه، من أن يفضي إلى أن لا يتجاوز الرئيس، بل كلّ بنية السلطة التي كوّنها، بما في ذلك وأساساً الحزب الذي حُكم باسمه، والبوليس والأجهزة الأمنية. أجهزة تدربت كي تخدم مصالح مافياوية لتلك الطبقة التي تحكم تونس منذ عقود، وتوثق ارتباطها بالطغم الإمبريالية. وهي التي، انطلاقاً من هذا الارتباط، فرضت الإفقار الشامل والبطالة المفرطة، إضافة إلى الاستبداد الشامل الذي هو ضرورة، ليس من أجل ذاته، بل لتحقيق السيطرة الطبقية التي تسمح بالنهب وبصياغة النمط الاقتصادي.
 
لهذا، فإنّ تقدم الانتفاضة وانتصارها ليس ممكناً إلا من خلال فكفكة أجهزة الدولة البوليسية، وتجاوز الدستور الذي فرضته المافيا، وكذلك تجاوز كل بنية السلطة القائمة. فهذه يجب أن تنتهي، أن تهزم، وأن تؤلَّف حكومة من القوى الأساسية التي أدت دوراً مهماً في الانتفاضة، أي النقابات والاتحادات والأحزاب، من اتحاد العمال إلى المحامين وأحزاب اليسار التي كان لها دور بارز، إلى الهيئات واللجان، التي تألفت خلال الانتفاضة. حكومة مؤقتة تعد لانتخابات مجلس تأسيسي يضع دستوراً جديداً يقر الحريات، ويضع سياسة اقتصادية مختلفة تخدم الطبقات الشعبية.

وهنا لا بد من أن نلحظ أنّ المسألة لا تتعلق فقط بإنشاء نظام ديموقراطي يعتمد الانتخابات والتعددية وحرية الصحافة، فهذه لا تحل مشكلات الطبقات الشعبية وستفضي إلى أزمة بعد حين، تفرض انتفاضة جديدة. ولا شك في أنّ لعب الطبقة الرأسمالية المافياوية كان يجري على هذه المسألة، فيكون التنازل في المجال «الديموقراطي» وغض النظر عن كل ما يتعلق بالنمط الاقتصادي وبالفروق الطبقية، وخصوصاً بوضع الطبقات المفقرة، التي هي أساس كل انتفاضة. ولسوء الحظ، تقبل بعض قطاعات المعارضة بهذه اللعبة، فتنقاد خلف السلطة، وتتجاهل الوضع الطبقي الذي كانت ترى أنّها تعبّر عنه. ويصبح همها هو «اللعبة الديموقراطية»، في وضع غير متكافئ، لا يسمح لقوى تطرح بديلاً اقتصادياً أن يحقق ما يجعله يفرض برنامج يمثل الطبقات الشعبية.

والآن، هل تقبل المعارضة، اليسارية خصوصاً، السير مع الحل الذي طرحه أفراد نظام بن علي (أو نظام المافيات)؟ أو تقول إنّها تسعى إلى تحسينه، لكنّها تقبل في النهاية؟ أو تؤلف سلطة بديلة، وتفتح الطريق لانتصار حقيقي للانتفاضة؟ فالحل من خلال آليات السلطة ذاتها، سيخلق متنفساً مؤقتاً في المستوى السياسي، لكنّه لن يحل مشكلات الفقر والبطالة، لأنّه لن يغيّر النمط الاقتصادي القائم، الذي هو، كما أشرنا، نمط رأسمالي مافياوي. وبالتالي، سيعيد الصراع إلى نقطة الصفر. وهو حلّ يجب أن يرفض نهائياً.

فليس هناك غير البديل، الذي يقوم على أنقاض النظام القائم، حتى لو لم ينجح الآن. لكن يجب أن يكون واضحاً أنّ الأزمة العميقة التي تعيشها الطبقات الشعبية لن تحل عبر الحل السلطوي. وبالتالي، حتى إذا توقفت الانتفاضة الآن، فإنّها ستعود في فترة قريبة بعد أن يتوضح للعاطلين من العمل والمفقرين بأنّ شيئاً لم يتحقق. وهنا يكون طرح البديل الآن من اليسار هو الأفق الذي سيحكم الانتفاضة القادمة.

المسألة، إذاً، لا تتعلق بشكل السلطة فقط، بل أساساً بطبيعة التكوين الاقتصادي الذي صيغت فيه تونس خلال العقود الماضية. ومن استطاع أن يعرف السبب الذي جعل الطبقات الشعبية تنتفض بهذه القوة، فعليه أن يعرف أنّه لم يعد من الممكن أن يتحقق حل شكلي تمويهي كما تريد المافيات، وأنّ الأمور ستندفع نحو تصاعد الصراع الطبقي، حتى وإن كان قد هدأ الآن. لهذا سيموت اليسار إذا وافق على لعبة المافيا المطروحة من خلال بيروقراطية السلطة القديمة، وبالتالي عليه أن يتبلور كبديل واضح، وأن يدفع الطبقات الشعبية لإكمال الانتفاضة لكي تنتصر حقاً.
"الأخبار"

التعليقات