18/01/2011 - 09:25

انتفاضة الياسمين../ نهلة الشهال

-

انتفاضة الياسمين../ نهلة الشهال

(تحية إلى كل الذين أفنوا أعمارهم يعملون لها و"ينتظرونها"!)

المشهد الذي أعلن عن حسم الموقف كان تسمّر الناس، سواد من الناس، أمام وزارة الداخلية ظهر يوم الجمعة. خمسون ألف متظاهر أو أكثر. لم يسبق أن تجرأ أحد على الاقتراب من أبواب هذه الوزارة. كانوا هنا، بينما سيل الأخبار/ الشائعات لا ينقطع: طائرات هليكوبتر تحط على سطع القصر الرئاسي، فيروح ناقل الخبر يزيد بين حلم ورجاء: هل سيهرب؟ إنه يهرب! بينما تتناقل الوكالات خبراً يقيناً عن وقـوع مزيد من القتلى. هذا حد السكين.

مس كهربائي يسري في عروق التونسيين في فرنسا الذين لم يكفوا عن التظاهر اليومي والصراخ: "تونس تونس حرة حرة، بن علي على برَّه"، بينما يتكرر إنشاد "إذا الشعب يوماً أراد الحياة"، وبقية قصيدة الشاعر التونسي "أبو القاسم الشابي" التي صيغ منها النشيد الوطني، بحماسة وتكرار لم يسبق حدوثهما على ما أظن، إذ تصدح به الحناجر، بين شعار وآخر وخطاب وآخر، وكأنه تعويذة بوجه خلافات لن تتأخر عن الإطلال برأسها، كأنه عنوان مشترك لهذا الاعتزاز الذي يفيض في العيون.

الأكبر سناً، ممن عرفوا السجون لسنوات ثم التشرد والمنافي، وما يرافقها من معاناة يتجنب وصفها حياءً مناضلون مثلهم، يشعرون وكأن الانتفاضة لحقت بهم في كهولتهم لتعوضهم عن سنوات العذاب والخيبات. واحد منهم وشوش يحدث نفسه: "انتفاضة الياسمين". لم يتوقعوها. حدثت بعفوية تامة. يبررون أو يفسرون أنها، "ولا شك"، نتاج تراكم. هي "لحظة" يقولون بغموض. كانوا قد نسوا كيف يمكن للمرء أن يستمر حقاً وفي سريرة نفسه في الأمل بها، في انتظارها، فتراهم بين فرح أزاح مسحة الحزن التي طغت عليهم، حتى عُجنت ملامحهم وأُحبطت أكتافهم، وبين قلق على تونس جديدة لا يعرفون تتمتها. قلق يعبر عن نفسه بعشرات التساؤلات، حول كيف سيجري تدبر الأمر "بعد". أما الشباب، فأكثر بساطة في تلقي ما يجري، يتلذذون بتلك الحماسة التي لم يسبق لهم، هم أيضاً، أن خبروها. قالت واحدة منهم: تعودنا التحمس لفلسطين وتنظيم تحركات لمساندتها. ما يجري لنا أمر غريب حقاً، كأننا في حلم، كأنه انفصام في ذواتنا. كلهم بودهم لو يكونوا هناك الآن..

يكتشف الجميع، تونسيون وغير تونسيين، هشاشة السلطة، أي سلطة، وأنها تعتاش على خوفهم، فما أن يزول هذا حتى تترنح تلك. يبدو القمع الدموي سحراً ينقلب على ساحر، تتعطل قدرته على الإرهاب، بل يبدأ بتغذية نقيض ما صُنع واستُخدم من أجله. فكلما ارتفع عدد الضحايا كلما بدا الأمر يستحق عناء المواصلة، وكلما بدا الموت ثمناً دُفع سلفاً مقابل نصر لا بد من تحقيقه. هل تصح المقارنات؟ هل يمكن استحضار ما جرى صيف 2006 في لبنان، حين سقط آلاف الضحايا في غارات إسرائيل، وكانت هذه تقصد الترويع، فإذا بالعناد يتفوق على ما عداه.


يكتشف الجميع هشاشة سلطة بن علي تحديداً. فهي عارية جرداء. هذا الجيل الأخير من السلطات يمثل انحطاطاً حتى بالمقارنة مع سالفيه من الأنظمة القمعية. فتلك كان عندها على الأقل ما تقـوله، وما تقوم به من برامج، سمِّها تحديثية، أو اجتماعية رعائية على الاقل، وكانت تفعل ولو بتسلط واستبداد، ولو بقصور. بينما هذه تعتاش على خدمة الشركات المتعددة الجنسيات والحكومات الغربية التي تحيطها بعنايتها. وبمقابل ذلك تنال الرضا والمساندة، وتطلَق يدها في نهب البلاد شريطة ضبطها خانعة للنهب الأول، الأصلي والكبير. خدمات متبادلة، "بزنس" صريح، وكالة شرْطية. وقد ساعد على قيامها على هذه الصــورة مـوجة "الحرب على الإرهاب" التي شوشت كل المقاييس وأربكتها، ومنحت عصابات من النُهَّاب "شرعية" كونهم منخرطين فيها، وكفتهم شرَّ سواها. لعله يا قوم، لم يوجد ابتزاز يفوق شبح بن لادن والقاعدة. فقد استخدمه الجميع مع وضد الجميع!

المهم أن الانتفاضة انتصرت، وأسقطت واحداً من أكثر حكام هذه المنطقة بوليسية، أي إجادة لاستخدام القمع. ليس ذاك الذي يتلخص بإطلاق النار على المتظاهرين في الشارع ـ عندها يكون الأوان قد فات ـ بل بنسج شرطي يتربع داخل عقل ونفس كل واحد، وبإيقاع عقـاب قاس علــى كل من يخطر له... أي شيء: ألم يُحكم منذ سنوات قلــيلة بما يشبــه السجن المؤبد على مراهقين تونسيين تجاوزوا بشــطارتهم عوائق الممــنوع السلطوي على الانترنت، وأريد لتلك الأحكام أن تكون عبرة لمن يعتبر؟ هذه أنظمة تسعى إلى انتزاع أي تمرد، إلى تحويل الحياة إلى روتين يومي رمادي، حين لا يكون كالحاً، كما هو لدى البؤساء، وهم الأغلبــية. "الإمكان" هو ما انتصر في تونس، وفي قلوب بقية العرب. ذلك قبل كل شيء. وهو أكثر ما يفزع سائر الحكام فزع مضحك، نراه اليوم في تفاصيل مراسيم تعم المنطقة، تتراجع فوراً عن زيادات في أسعار المواد الأساسية كانت تقررت بكل إصرار، أو تهب منحاً للناس لهذا السبب أو ذاك. كم هناك شماتة صحّية في الجو!


ماذا بعد؟ صحيح أن اليوم نصرٌ وغداً أمر. ولكن، وحتى لا تُسرق من أصحابها انتفاضة الياسمين - زهرة التونسيين المفضلة، الرقيقة والفواحة في آن ـ فلا بد من منع محاولات الإبقاء على النظام من دون رأسه. لعل تونس بدءاً من اليوم تمر بعدة مراحل انتقالية، وليس في ذلك ما يضير، وإنما المهم تحديد الأولويات: فإن كانت هذه تبدأ بتفكيك أجهزة القمع التي بنتها السلطة السابقة، فلا بد أن يجري ذلك بإشراف قيادة جماعية تمثلية، بلا إقصاء، تتفاهم على الخطوات التالية. إنه عمل تأسيسي بحق.
"السفير"
 

التعليقات