24/01/2011 - 14:44

المستور مكشوفا .. فالقضية لا تستحق الاستخفاف../ ناصر السهلي

قضيت بعض الوقت وأنا أتلمس مواقف فلسطينية، رسمية أو شبه رسمية، لما عرضته قناة "الجزيرة"، ومن المؤسف حقا أن تكون أول المواقف الصادرة هي من الشكل الذي عهدناه: تشكيك بالتوقيت والأهداف وهجوم مباشر وغير مباشر على الشخصيات الفلسطينية الفكرية والنخبة التي محصت في الوثائق المعروضة على الجمهور.. وسنشهد المزيد من التصعيد الذي قد يصل حدا شهدناه في 2009، وربما يتجاوزه..

المستور مكشوفا .. فالقضية لا تستحق الاستخفاف../ ناصر السهلي
ملاحظة أولية
 
قضيت بعض الوقت وأنا أتلمس مواقف فلسطينية، رسمية أو شبه رسمية، لما عرضته قناة "الجزيرة"، ومن المؤسف حقا أن تكون أول المواقف الصادرة هي من الشكل الذي عهدناه: تشكيك بالتوقيت والأهداف وهجوم مباشر وغير مباشر على الشخصيات الفلسطينية الفكرية والنخبة التي محصت في الوثائق المعروضة على الجمهور.. وسنشهد المزيد من التصعيد الذي قد يصل حدا شهدناه في 2009، وربما يتجاوزه..
 
المؤسف في كل الأمر المعروض علينا هو التركيز على الشكل لا المضمون، وظهور حالة من هستيريا الاستعطاف باسم "الوطنية" و "المؤامرة".. لا يعنيني شخصيا من هي الوسيلة الإعلامية التي كشفت "المستور" الذي كان يعرفه قراءة وتحليلا الكثير من كبار مفكرينا وأساتذتنا الفلسطينيين، لذا كان من الأجدى لو أن الممسكين بقرار المفاوضات صارحوا شعبهم طيلة الفترة التي تلت رحيل الشهيد ياسر عرفات.. وللملاحظة أيضا، كشف "أبو عمار" قبل وبعد كامب دافيد في 2000 ما كان يراد التنازل عنه، فأتى من اعتبر كل القضية حكرا عليه وعلى "الطاقم"..
 
الآن لا بد من الإجابة على السؤال التالي: كم عانى الكتاب والمثقفون والمفكرون والمؤرخون الفلسطينيون من تلمسهم وقراءتهم للواقع المأساوي الذي كانت تدار من خلاله عملية تضييع الوقت باسم "الالتزامات"؟
 
الجواب على هذا السؤال يستدعي التفكير مليا بأن فلسطين لم تكن أبدا عاقر لكي يصور لنا أن لا أحد قادرا على إدارة الحقوق الوطنية إلا نخبة معينة.. ومن المؤسف حقا أن نكتشف اليوم بأن م.ت.ف التي دفع الشعب الفلسطيني ثمنا كبيرا لتثبيت مشروعيتها ومشروعها الوطني التحرري جرى تحويلها إلى مجرد كيان استغلت شرعيتها النضالية أمام مشروع دهاليز التفاوض بعيدا عن المشروع الأكبر في إعتبار التضحيات والمعاناة التي قدمها الشعب الفلسطيني وكأنها لم تكن.. أو كانت سبيلا للهروب من الأخطاء بمزيد من الخطايا بالخروج نحو المزيد من الإمعان في بازار فاشل..
 
الثوابت.. هي الثوابت؟
 
الوقت ليس وقتا للتشفي ولا لرفع شعار "ألم نقل لكم".. وقد لا يعني أبناء الشعب الفلسطيني في كل مكان هذا الشرح والسرد والتبرير الذي تمعن في استخدامه تلك السياسة الخاطئة، ولا حتى إن كان المسرب لهذه الوثائق جمعها من مكاتب المفاوضين ولا حتى إن كان طرف ما سربها ولا إن كانت دولة أو وسيلة إعلامية أرادت "إحراج القيادة".. فهذا ليس هو الموضوع الجوهري.. ما هو مهم للشعب الفلسطيني أكبر من تلك التساؤلات بكثير..
 
فمجرد التعاطي الارتجالي، وبالمناسبة هذه ليست المرة الأولى التي أكتب فيها شخصيا عن الذي كُشف من المستور، مع مسائل المفاوضات برمتها تذكرنا بقضايا جوهرية وأساسية ، عن غياب الاستراتيجيات الجماعية والوطنية المشتركة لمجموع القوى الفلسطينية وتغييب الشعب الفلسطيني عما يدور باسمه وحقوقه الوطنية الثابتة..
 
كتبت ذات مرة عن أنه حتى الشركة التي تصل حد الفشل في إدارة مصالحها تتوقف لتراجع سياساتها بشكل جدي قبل الانهيار والإفلاس، وما عايشناه طيلة 19 عاما من التفاوض العبثي كان يشير إلى أننا سنصل حتما إلى حافة الانهيار لأن البعض، ونتيجة لعوامل كثيرة ذاتية وإقليمية ودولية، أصر على السير في المفاوضات كنوع من الحياة التي بدونها تنعدم وسائل وسبل الحياة.. وأية حياة..
 
كان من الممكن لعودة سريعة إلى كتاب شمعون بيريز " الشرق الأوسط الجديد" ( دار الجليل للنشر والدراسات والأبحاث الفلسطينية، 1994) أن تكشف الكثير من الأسلوب الإسرائيلي والفلسطيني في قراءة المفاوضات وإدارتها والنتيجة المرجوة منها.. ففي الصفحة 27 تكمن ربما كل القصة، إذ يقول بيريز : "إنني أعرف أن ما حصل لليهود لم يسبق له مثيل: أمة تعود إلى وطنها، وإلى لغتها الغابرة بعد قرون ورأيت أن أمرا لا سابق له يمكن أن يحصل للفلسطينيين: جماعة لم تكن يوما شعبا يمكن أن تصبح الآن شعبا وسط الشعوب" (انتهى الاقتباس الحرفي)..
واحتاج منذ سنوات طويلة قراءة دقيقة لكي نفهم أن التفاوض مع الطاقم الإسرائيلي الذي يعتبر بيريز الأب الروحي له لا يدور إلا ضمن هذه الدائرة.. يصبح المغتصب للأرض هو مانح صفة شعب للشعب الفلسطيني.. و ما الإعجاب والتصفيق الذي لقيه السيد سلام فياض في مؤتمر هرتسيليا الأخير إلا على أساس وجود رؤوس تتفهم "الحق التاريخي لليهود"..
 
في مقدمة كتابه، وقد وصل حينها، 1993 ليلة العشرين من آب، لعيد ميلاده السبعين، وفي الصفحة 11 يكتب بيريز: " ها نحن مجموعة صغيرة من الإسرائيليين والفلسطينيين والنرويجيين، نشترك في أشد أسرار الدبلوماسية كتمانا، سر سيؤدي الكشف عنه إلى منعطف فريد في تاريخ الشرق الأوسط. وابتسم أبو علاء، ممثل منظمة التحرير الفلسطينية ابتسامة دافئة بوجهي، وقال: إن هذه الاتفاقية هي هدية عيد ميلادك. وخطر لي يا لها من هدية فريدة غير متوقعة، بل يستعصي سبرها".. من المذهل والمفجع حقا أن يقوم شخصا فلسطينيا باعتبار اتفاقية "أوسلو" السرية ومن وراء ظهر الشعب الفلسطيني هدية لشخص لم يكن أبدا أكثر مما عرفناه في قانا وقبلها وبعدها.. إنه لأمر مخجل أن تعيدنا الذاكرة اليوم إلى ما تمت صياغته على حطام انتفاضة الحجارة لكسر حاجز الفرق بين مفاوضة عدو ومحتل ومفاوضة شريك أو طرف محايد.. 
 
حين كان البعض الفلسطيني ممن أثاروا الشكوك منذ البدايات حول ما يجري، ظن البعض أن هؤلاء "ناكرون للجميل" على حد قول المفكر الراحل إدوارد سعيد، وهي من ظنون الأمور التي توهمت بأن نسج العلاقات الشخصية والسباحة الجماعية في ايلات ومنتجعات البحر الميت هي التي تأتي بالحقوق.. ولن أنسى ما حييت الصور التي كنت أحدق فيها، مثل غيري من الجيل الفلسطيني الذي تربى على أن المنظمة هي منظمة الثوابت، غير مصدق بأن هذا يحدث على أساس التمسك بتلك الثوابت.. الصور التي تجعل شلومو بن عامي يستخدم كف يده ليحنو بها على وجه قيادي أمني فلسطيني.. ولا تلك الصور الهزلية لمجموعة تتربع على القرار تخرج بفكرة توجيه استجداء عبر الفيديو للمجتمع الإسرائيلي.. ولا حميمية اللقاءات التي شهدتها فنادق ومطاعم القدس المحتلة ولقاءات حيفا والمنتجعات المقامة على أنقاض الحق الفلسطيني..
 
ما أود قوله إن كل الكتابات النقدية التي تناولت المفاوضة على الاستيطان والقدس واللاجئين والتنسيق الأمني لم تكن صادرة عند من تناولها من منطلق "كره الذات" ولا "الوقوف ضد المصلحة الوطنية العليا".. ومن فسر ونقد ما أسماه دوما المفاوض الفلسطيني بـ"الوسيط الأميركي".. كلها لم تكن تحتاج لهذه الوثائق المسربة.. فحتمية استغباء العقل كانت الناظم الدائم لدى ساسة يعتبرون أنهم على حق ولا تستحق القضية مراجعة جدية وناقدة لمسارات خطيرة وخطيرة جدا على حياة ومستقبل قضية وطنية بحجم فلسطين ومكانتها التاريخية حتى عند غير الفلسطينيين..
 
ماذا يهم الفلسطيني أن يُقال له: كل خطوة كنا نقدم عليها كان البعض العربي على علم بها، وأن الوثائق تسلم لعواصم بعض الدول.. عجيب هذا التفسير الذي لا يستوي مع حالة عربية تعيش وفق النسق الأميركي للقراءات والاستراتيجيات بينما الشعب الفلسطيني صاحب الحق في معرفة ما يدور باسمه يجري تهميشه وتغييبه..
 
ختاما ، أقل ما يمكن القول فيما جرى كشف عنه أنه يضيف إلى القناعة بأن هؤلاء لا يستحقون لا لقب ولا مركز القيادة.. وما يستدعيه الأمر، لو كان هناك أقل احترام للذات وللشعب، أُعيد مكررا بأنه ليس عاقر ولا قاصرا، وربما أقصى سرعة التوقف التام عن العبث بالقضية وأن تشكل فورا لجنة إنقاذ وطنية فلسطينية للتوقف أمام الانهيارات التي كان يسير بها هذا الفريق المفاوض.. ولم يعد من معنى لإعادة إنتاج رواية "المنجزات الوطنية" ممثلة بالسلطة الفلسطينية التي تغولت فالتهمت م.ت.ف بكل ما تمثله من مؤسسات وطنية هي ملك للشعب وليس للفصائل الساكتة عن هذا التدهور..
 
لا شيء على الإطلاق يستدعي أن يُعطي البعض مبررات فارغة المضمون عن "التزامات" لا وجود ولا احترام لها عند الطرف المحتل الذي يجد أنه يعيش أفضل مناخات الاحتلال على الإطلاق بدون ثمن وبدون من يقف بحزم بوجهه.. فمن يبحث عن صيغ تبريرية لاستمرار التنسيق الأمني مع الاحتلال لا تسمية أخرى له سوى التسميات التي استخدمتها كل الشعوب التي كانت تقاوم وتفاوض.. ومن يقول بأن هذه التسريبات جاءت لتضرب مساعي التوجه إلى مجلس الأمن وغيرها من التحركات التي تهدد بها السلطة الفلسطينية بدون أي التفات لعوامل القوة الذاتية ممثلة بالشعب الفلسطيني إنما هو قول يعيد صياغة الفشل مرة ثانية، فالأمم المتحدة كلها جرى شطبها رويدا رويدا في رحلة المفاوضات لمصلحة صيغة جهنمية تعتمد على مقولة "الاحتكام إلى المفاوضات بين الطرفين".. أي لا مرجعية دولية ولا وطنية واضحة.. القضية ليست حكرا على البعض ممن أثبت بأنه يعيش وهم "الكيان" وفتح شهية مشاريع يحددها بيريز في السابق عبر التسول للشعب الفلسطيني وليبرمان ونتنياهو اليوم بتحديد ما تستحق هذه السلطة من حلول مؤقتة.. فمجمل التسريبات تثبت صحة الخلل القائم على غياب المرجعية والعيش رهينة ما يقدمه الطرف المحتل كـ" تنازلات" يتم تسويقها على أنها منجزات.. فلا الشيخ جراح في القدس ولا أي شبر من المدينة المقدسة ملك لأحد ليساوم عليها.. ولا "هارحوما" وجبل أبو غنيم كذلك.. ولا حق العودة بازار مفتوح للتصرف به.. ستجد هذه التسريبات ارتدادات كبيرة تحتاج لكل جهد فلسطيني وعربي مخلص لاستخلاص العبر في التعاطي مع كل القضية الفلسطينية وهو أمر لا يتم بالتدليس والتبرير والشرح الفاشل..

التعليقات