24/01/2011 - 13:55

بين تونس وبيروت: العودة إلى الوحدة الوطنية../ طلال سلمان

يقارن اللبنانيون، في هذه اللحظة تحديداً، وبكثير من الحسرة، بين محاصرة إرادة التغيير في وطنهم الصغير بالأسوار الطائفية والمذهبية، قاتلة الأمم والأوطان، وبين الانتصار الباهر الذي حققه إخوانهم في تونس على الطاغية الذي ألغاهم لربع قرن تقريباً ومسخ تاريخ جهادهم ضد المحتل الفرنسي وانتزاعهم استقلال بلادهم بدماء الشهداء

بين تونس وبيروت: العودة إلى الوحدة الوطنية../ طلال سلمان

يقارن اللبنانيون، في هذه اللحظة تحديداً، وبكثير من الحسرة، بين محاصرة إرادة التغيير في وطنهم الصغير بالأسوار الطائفية والمذهبية، قاتلة الأمم والأوطان، وبين الانتصار الباهر الذي حققه إخوانهم في تونس على الطاغية الذي ألغاهم لربع قرن تقريباً ومسخ تاريخ جهادهم ضد المحتل الفرنسي وانتزاعهم استقلال بلادهم بدماء الشهداء.

ذلك أن تغيير حكومة في لبنان يكاد يشعل فتنة لا تبقي ولا تذر: تستنفر دول كثيرة أجهزتها السياسية والدبلوماسية، ويتوالى على منبر التحذير رؤساء وملوك وقادة وأمراء ووزراء محذرين من الإخلال بالتوازن الطائفي، قبل أن ينضم إليهم العدو الإسرائيلي مهدداً بالويل والثبور إذا ما تمّ "تبديل قواعد اللعبة"!

وأكثر ما يغبط عليه اللبنانيون إخوانهم التونسيين: توحدهم حول الهدف، واندفاعهم بزخم الإرادة إلى تحدي الظلم حتى إسقاط النظام الذي ألغى شعبه، وعيّن نفسه بديلاً منه، وانتزع من العزة الإلهية حق القرار في الحياة والموت، معتمداً على أولئك الرؤساء والملوك والأمراء والقادة، لا سيما منهم الناطقون بالإنكليزية ومن ثم الفرنسية.. ومؤخراً العبرية!

ذلك أن اللبنانيين ممنوعون من أن يكونوا شعباً واحداً، بأهداف ومطامح موحدة، عدوه هو العدو لجميعهم، وشقيقهم هو الشقيق لجميعهم، وصديقهم هو صديق بلادهم مستقلة وحرة بشعبها جميعاً.

كذلك فإن اللبنانيين، كما سائر الأشقاء العرب، يغبطون الشعب التونسي على رقيه في ممارسة الديموقراطية وفي الحرص على وطنه وعمرانه ودولته بمؤسساتها جميعاً، حتى وجماهيره العارمة تندفع أمواجاً هادفة بالثورة إلى الشوارع. كان "العدو" محدداً: حكم الطغيان، أما البلاد فبلادهم، ليسوا طارئين عليها ولا هم عابرون فيها، ولا هي ملك الطاغية. لقد كانت مغصوبة فاستعادوها. هم لها وهي لهم، على اختلاف ميولهم وانتماءاتهم السياسية.

ثم أن الشعب التونسي لم يوقف انتفاضته مع هرب الطاغية (بثرواته!!) بل هو تابع مسيرته لاقتلاع النظام الدكتاتوري من جذوره، وبكل مظاهره التزيينية: حزب السلطة والأحزاب التابعة له. مجلس الوزراء، المجلس النيابي، الاتحادات المهنية والنقابية التي كانت تزوّر إرادة الناس...

بل أن أهل الانتفاضة رفضوا القبول برئيس حكومة الطاغية بديلاً منه ولو ليوم واحد، كما رفضوا أن يكون بديله رئيس المجلس النيابي المعيّن لمخادعة الجمهور وإيهامه بأن تلك هي الصورة النموذجية للديموقراطية... وها هي الجماهير ما تزال تتدفق من مختلف أنحاء تونس إلى ساحات عاصمتها لتحمي أهدافها، فلا يخدعها الانتهازيون والمتسلقون ومبدّلوا أقنعتهم أو وجوههم، إذا اقتضى الأمر، ليحفظوا مواقعهم في الصدارة.

***

أسباب حسرة اللبنانيين لعجزهم عن التصرف كما التوانسة عديدة، أبرزها أنهم يفتقدون وحدتهم، وأن نظامهم المدوّل أقوى بما لا يقاس من "دولتهم" الهشة والتي كثيراً ما غُيّبت عملياً لفترات طويلة أو غيّبها الخوف من الإخلال بالتوازن عن القرار!

فالدولة في لبنان تستبطن دولاً عدة تتولى حماية النظام، بعيداً عن مطامح شعبها، بل وعلى حساب هذه المطامح غالباً. إن نظامنا السياسي أشبه بلوحة من الفسيفساء، كل قطعة منه متصلة بالأخرى منفصلة عنها... فلم تكن وحدة الشعب والأرض هي القاعدة في استيلاد هذه الدولة قبل تسعين عاماً، بل إن خريطة تقاسم المنطقة بين مستعمريها الغربيين هي التي أوجدتها ورسمت لها حدودها التي ستتوافق مع خريطة المشروع الإسرائيلي العتيد... لكن ذلك حديث آخر، فلنعد إلى الموضوع:

السياسة في لبنان "امتيازات" طائفية. النظام ثابت، والدولة مؤقتة، والصراع محكوم بأن يكون طائفياً. والطوائف دول ومصالح دولية، وليس الشعب حاصل جمع الطوائف، فمتى حضرت الطوائف حضرت الدول وغاب الشعب بل غُيّب تماماً وتحوّل إلى قطعان متواجهة، لكل قطيع دولة أو دول عدة ترعاه.

أما السلطة فناتج الصراع بين الدول التي تتصرف بالتوازنات الطائفية، وكلما اختلت "التفاهمات الدولية" تهاوى السلم الأهلي، وتفجّرت أزمة النظام البنيوية على شكل حرب أهلية تدفع ثمنها "الدولة" و"الشعب" وتُعاد صياغة النظام الفريد عبر معطيات التوازن الجديد.

***

فقط في بلادنا تتعاطى الدول ـ عبر موفديها العلنيين أو السريين أو عبر سفاراتها ـ مع الطوائف مباشرة، سواء من تراهم ممثليها السياسيين، أو عبر مراجعها الدينية، من فوق رأس الدولة وحسابها.

وها نحن نشهد فصولاً للصراع الدولي (والعربي) بالصوت والصورة عبر محاولة إخراج هذا الوطن الصغير من مأزقه الخانق بتشكيل حكومة جديدة لا يمكن أن تجسّد ثورة شعبية، ولا هي تستطيع أن تنجز انقلاباً يخلخل ركائز التوازن القائم، وإن افترض أنها ستعدّل في المسار الخاطئ الذي كان يهدّد بدفع البلاد ـ بدولتها ووحدة شعبها ـ إلى المجهول.

إن "الدول" لا تتحدث عن اللبنانيين كشعب واحد تعداده لا يتجاوز الأربعة ملايين نسمة، بل أن بعضها يرى هذا الوطن الصغير مركز الكون ونقطة التوازن بين "معسكر الخير" الأميركي ـ الإسرائيلي وبين "معسكر الشر"! وهذا البعض من الدول يخوض معركة تشكيل الحكومة وكأنها تهديد للسلم العالمي.

من هنا لم يتورّع بعض ممثلي الدول، غربية وعربية، عن اعتبار اختيار رئيس جديد للحكومة، ديموقراطياً، وكأنها حرب على طائفة، بل إلغاء لطائفة، كأن أية طائفة يمكن اختصارها برجل فرد يتصرف بها تصرف المالك بملكه، في بلد استطاع أن يستوعب 18 طائفة... والحبل على الجرار!

***
مرة واحدة نجحت الإرادة الشعبية في لبنان بأن تُسقط ـ سلمياً ـ رئيساً للجمهورية، (الشيخ بشارة الخوري) بعد أن نجح في تمرير "التجديد" نيابياً، وكان ـ بالمصادفة ـ الرئيس الأول لدولة الاستقلال... لكن "وريث" ذلك الرئيس حاول التجديد لنفسه فلم ينجح فحاول إشعال حرب أهلية بذريعة حقوق الطائفة (كميل شمعون)، وفشلت المحاولة لأسباب تتعدى حدود لبنان، فضلاً عن إرادة شعبه.
ذلك زمن آخر، وإن كانت "الدول" هي التي حسمت الأمر في النهاية.

أما الأمر اليوم فأبسط من ذلك بكثير: لقد تبدلت الأحوال، ونشأت توازنات جديدة في الداخل، وفي الخارج، بدءاً بالمحيط القريب... وأن تتبدل الحكومة برئيسها ووزرائها أمر يستوجبه الاختلال الذي نسف توازنها الدقيق، نتيجة مواقف متسرعة، وحسابات خاطئة كادت تلغي "الداخل" تماماً، بكل توازناته الدقيقة... بل وكادت تتورّط في مغامرات لا يتحمّلها هذا الكيان الهش.

ومن أسف أن لبنان ليس تونس، وأن الانتفاضة الشعبية فيه مستحيلة بسبب من "نعمة التعدد" التي تضفي على شعار التغيير صبغة طائفية وتصوّره انتصاراً لفئة على أخرى، بغض النظر عن مبرراته التي يعترف بصوابيتها الجميع.

فلنأمل أن نكون على باب مرحلة جديدة، تتعزز فيها الدولة باعتبارها مرجعية الكل، ويمكن ممارسة الحد الأدنى من القدرة على التغيير الضروري للحد من الخطأ السياسي المتمادي الذي أوصل البلاد إلى حافة الحرب الأهلية.

لنأمل أن نكون قد بدأنا رحلة العودة إلى الوحدة الوطنية باعتبارها ضمانة وجود هذا الوطن الصغير بكل علله وعيوبه وتعدديته التي كثيراً ما حوّلها استغلال الدول إلى مصدر لخطر قاتل للأوطان.
"السفير"
 

التعليقات