02/02/2011 - 09:27

الانتفاضة بين الحاسوب والحزب../ علي جرادات

قال أحد الظرفاء عام 1957: "إني لأرى الرجل فيعجبني، فإذا قيل لا حزب له سقط من عيني". وأتخيّل أنه لو كان ذلك الظريف موجودا الآن لقال: "إني لأرى الرجل فيعجبني، فإن قيل لا حاسوب له سقط من عيني".

الانتفاضة بين الحاسوب والحزب../ علي جرادات
على غير توقع من أحد، ورغم غياب قيادة حزبية جاهزة، وبما يخالف إحباط التذبيح والتفتيت الداخلي في المشهد العربي، وعلى حين غرة من كافة أجهزة الأمن المحلية والأجنبية المعنية، وفي مواجهة قمع غير مسبوق، إنما مع توفر الحيثيات السياسية والاجتماعية الموضوعية، التي تستحث إرادة التغيير، اندلع طوفان انتفاضي شعبي عربي سلمي متواصل. بدأ لهيبه في تونس، وامتد بسرعة البرق إلى مصر، الدولة العربية المركزية، التي إن نامت نام العرب، وإن قامت قام العرب. وبذلك يكون المشهد العربي، من مغربه إلى مشرقه، على مفترقات طرق "الزمن الثوري المكثف"، الذي يقاس إنجاز الدقيقة فيه، بإنجاز أيام، بل بإنجاز شهور أو سنوات في "الزمن الرمادي".     
 
   عليه، فإن ثمة ضرورة للتحاور مع وقائع هذا المنعطف الكبير، حواراً عقلياً يتجاوز متابعة أحداثه اليومية المتلاحقة، التي لم تنتهِ، مردودا وصدى، بعد. وهنا، وبعيدا عن تغييب العام في خاص سمات الفعل الانتفاضي للشعوب وقوانينه، وبعيدا عن تغييب الخاص في سمات هذا الفعل وقوانينه. نقول بعيدا عن هذا وذاك، فإن الجاري من انتفاضات شعبية عربية، وإن كانت اكتست بالقوانين العامة لما سبقها من انتفاضات شعبية عربية وأجنبية، إلا أنها أضافت، وما زالت تضيف، جديدها الخاص للعام من قوانين الانتفاضات الشعبية، خاصّ فرضه إيقاع عصرها السريع العصي على التحكم، بما يسوده من ثورة في تكنولوجيا المعلومات والإتصال الألكترونية. فأين هو العام، وأين هو الخاص في انتفاضتي تونس ومصر الجاريتين؟؟؟
 
   بكلمات هيغل، فإن "كل نظام يعيش مأزقه حتى ينتج حفار قبره". وهذه حال الأنظمة الرسمية العربية، التي لم تعالج مآزقها، فشاخت، ولم يعد بإمكانها الحكم بنفس طريقة حُكْمِها منذ الاستقلال الوطني قبل نصف قرن ويزيد، كما لم يعد بمقدور الشعوب أن تتحمَّل أكثر وطأة هذا الحكم الاستبدادي، حيث بلغت تناقضات المجتمعات العربية ذروتها، فأزِفت ساعة الثورة، وانفجر المرجل الشعبي العربي، غلي لعقود على نيران حجز التحرر السياسي والاجتماعي للعرب، وتجلى في جيشان انتفاضي شعبي عفوي سلمي عارم متصل، سبقته، ومهدت له، هبات شعبية عديدة، كانت بمثابة إنذارات، استخفت بها النظم الحاكمة وقمعتها بمعالجات أمنية قاصرة، تظن أن إحتكار السلاح والمال يمكن له أن يحتجز السياسة والحريات، بل واحتجاز الفهم ايضا، ما خلق وضعية سياسية اجتماعية عربية مفوّتة، وصفها تقرير للأمم المتحدة بالقول: "إن أفريقيا تتصنع والعرب لا، والأمية تندثر في جنوب آسيا فيما هي 40% لدى العرب". وبالتالي، فلا غرابة في الجاري من جيشان انتفاضي شعبي عربي، بدأ في تونس، فمصر، وأظن ككثيرين غيري أن الحبل على الجرار، اللهم إلا إذا كانت الشعوب العربية خارج القوانين العامة للانتفاضات الشعبية، أو إذا تداركت بعض الأنظمة العربية الحاكمة وضعها، وقامت بإصلاحات سياسية واجتماعية جوهرية استباقية.   
 
   وبالمقابل، إن كانت الأنظمة الرسمية قد استخفت بالهبات الشعبية الإنذارية، فإن المعارضات العربية لم تستطع التعامل معها بما تقتضي طبيعة هذه الهبات، بفعل "تبقرط" نخبها القيادية، وقلة استعدادها، ووقوفها في منتصف الطريق بين أنظمة مستبدة وحالة شعبية مقهورة، فتخلفت عن القيام بقيادة هذه الهبات الشعبية، وتطويرها تراكميا من طور إلى آخر. وبالتالي، ولأن الطبيعة تكره الفراغ، فقد جاءت الانتفاضات الشعبية العربية الجارية عفوية عارمة متواصلة، رغم افتقادها، (بنسبة عالية)، إلى حزب أو إئتلاف حزبي معارض يقودها وينظمها. وفي هذا يتجلى خاص هذه الانتفاضات الشعبية، كخاص ينطوي، (رغم عظمة فعله الميداني)، على قصور في سرعة بناء البديل التحرري السياسي والاجتماعي.
 
   إذ صحيح أن انتفاضتي تونس ومصر استخدمت التكنولوجيا الألكترونية الحديثة، التي بإمكانها أن تحل محل الحزب السياسي من حيث هو أداة للتحريض والاتصال في عملية هدم النظام السائد، لكن هذه التكنولوجيا لم تأت، (في اقله لم تأت بعد)، بما يحل محل الحزب السياسي من حيث هو أداة تنظيم وقيادة وتوجيه لبناء البديل، ما أثقل كاهل هذه الانتفاضات الشعبية بمهمة إضافية، تمثلت في إنعاش وإحياء وتطوير وتثوير وتوحيد ما كان يجب أن ينظمها ويقودها من قيادة حزبية. وبهذا، تكون قد أغلقت الطريق أمام تكرار ما سبقها من أنظمة مستبدة ومعارضات عاجزة.
 
   عليه، وبالنظر إلى ما هو خاص في انتفاضتي الشعبين التونسي والمصري، أي طابعهما العفوي في ظل غياب معارضات سياسية حزبية جاهزة للقيادة، فإنه ليس أمامهما إلا المرور في مرحلة انتقالية. تتعايش في هذه المرحلة عناصر من الحالة القديمة مع عناصر من الحالة الجديدة. ومن الطبيعي أن يسود بينهما صراع ووحدة، مما يجعل مستقبل هاتين الانتفاضتين محكوما بنتيجة هذا الصراع، الذي سيتأثر حتما بالوضع الدولي والإقليمي خارجيا، وبموقف مؤسسة الجيش داخليا، دون نسيان التمايز النسبي بين الحالتين التونسية والمصرية. في الحالة التونسية، كان الجيش مهمشا، فصار على الحياد، أما في الحالة المصرية فالجيش لاعب أساسي، كان في السابق مصدرا للحكم، ويلعب الآن دورا حاسما، تبدى واضحا في خَطْبِ وده من كافة أطراف الصراع، بدءا من رأس النظام، مرورا بالجماهير المنتفضة، عرجا على القوى السياسية المعارضة، وانتهاء بالقوى الإقليمية والدولية. ولكن تواصل الفعل الانتفاضي في الميدان، بل وتوقع تصاعده أكثر، سيكون العامل الحاسم في تقرير مردود هاتين الانتفاضتين قُطريا، وصداهما قومياً.
 
   وفي هذا الإطار يمكن أن نتوقع في الوطن العربي حربا ضروسا بين الأنظمة العربية وجماهيرها، على وسائل الاتصال الالكترونية. تحاول الأنظمة التضييق على هذه الوسائل وتخريبها، بينما تحاول الشبيبة توسيعها وتعميم استخدامها، حيث أن الوسائل الألكترونية صارت السلاح الجماهيري الفعال، وناب الحاسوب عن الحزب السياسي في مجالات عدة، ما يفرض على الأحزاب العربية المعارضة إيلاء وسائل الاتصال الحديثة أهمية في عملها الداخلي والخارجي، وتطوير كادراتها بما يجعلهم قادرين على التحكم بهذه الوسائل. قال أحد الظرفاء عام 1957: "إني لأرى الرجل فيعجبني، فإذا قيل لا حزب له سقط من عيني". وأتخيّل أنه لو كان ذلك الظريف موجودا الآن لقال: "إني لأرى الرجل فيعجبني، فإن قيل لا حاسوب له سقط من عيني".                 

التعليقات