09/02/2011 - 14:47

الثورة مهرجان../ فواز طرابلسي

الشمس التي أشرقت على اليوم المليوني الثاني في هذا الأسبوع الثالث من ثورة شعب مصر بدّدت بسرعة كل ما خيّم من غموض والتباس على مشهد الصراع في "مّ الدنيا"

الثورة مهرجان../ فواز طرابلسي

الشمس التي أشرقت على اليوم المليوني الثاني في هذا الأسبوع الثالث من ثورة شعب مصر بدّدت بسرعة كل ما خيّم من غموض والتباس على مشهد الصراع في "مّ الدنيا".

الثورة مهرجان. تبدع ألف طريقة وطريقة للالتفاف على مناورات السلطة. بعد الصلاة المسيحية ـ الإسلامية المشتركة يوم الأحد، هذه هي الدروع البشرية تسوّر ميدان التحرير الذي أخذ يعجّ بأكبر حشد عرفه حتى الآن، يعلي الهتافات برحيل الدكتاتور ويهزج بأناشيد السويس و"الوطن الأكبر" و"العبور" وأغاني الشيخ إمام، فيما الفرق المسرحية والموسيقية تعلن أن الثورة فرح.

أحبطت مناورات النظام الواحدة تلو الأخرى. لم ينفع ظهور مبارك وعقده الاجتماعات الرسمية إلا في زيادة الاستفزاز... وإن يكن أشار إلى تصلّب أميركي يعزوه البعض إلى ضغوط إسرائيلية وسعودية ضد التخلي عن الرئيس الذي تطالب أكثرية شعبه، في استفتاءات يومية، بخلعه. وتبدّدت الدعايات والإشاعات التي أوحت بأن الحوارات بين السلطة وبعض أحزاب المعارضة تعلن بدء الانفراج. عاد كل شيء إلى نقطة الصفر: تنحي حسني مبارك. أعادت جماعة الإخوان المسلمين التذكير بأولوية المطلب، مع أنها لم تكن موفقة في تفسير مشاركتها في الحوار بأنها لـ"إبلاغ المسؤولين بالمطالب الشعبية". هو تفسير يدل على مدى ما تحتاجه أحزاب المعارضة التقليدية للحاق بمنطق الثورة ـ منطق "الشعب يريد تغيير النظام" ـ وما يمليه من سياسات وتكتيكات ومواقف. ليس المطلوب إبلاغ المسؤولين بشيء اللهم إلا ضرورة محاكمتهم ومحاسبتهم على ارتكاباتهم. وليس المطلوب أكثر من التفاوض معهم على أواليات الانتقال إلى سلطة جديدة عن طريق إلغاء حالة الطوارئ وإطلاق سراح المعتقلين وصولاً إلى تنحي مبارك وحل مجلسي الشعب والشورى وتشريع حريات الصحافة والرأي والتنظيم.

المؤكّد أن الثورة ذهبت بعيداً في التعبير عن مطلبها الجذري. إن من استدعى ثمانية ملايين إلى الشوارع لا يستطيع أن يعود إلى ما قبل 25 يناير. يستطيع أن يصمد، أن يخوض معارك متحركة أن يتقدم أو يدافع أو حتى أن يتراجع لاستعادة القوى. لكن الثورة وصلت إلى وضع إما أن تُسقط النظام أو أن يُسقطها.

ومع أن الثورة لا تزال في مطلعها، فما أكثر محاولات اختصارها بعامل واحد أو محرّك حاسم أو إسباغ التسميات والهويات عليها. يصفها البعض بأنها "ثورة الإنترنت"، على غرار ثورة الحجارة أو ثورة الأطفال الفلسطينية، مع أن انقطاع الإنترنت لا يبدو أنه أثّر عليها كثيراً. وتتعدّد المحاولات لتنزيهها ـ الثورة ـ عن المصالح والعوامل الاقتصادية والاجتماعية كأنما المطالبة بالعمل والخبز والتوزيع العادل للثروة ومحاربة الفوارق الطبقية والمناطقية من قبيل العيب. أو كأن لا علاقة للاستبداد القائم على سيطرة المجمع المافياوي ـ الأمني بحرمان الناس الخبز والحرية والعمل والحياة الكريمة. أما مرشد الثورة الإيرانية الإمام خامنئي، وقد وأد منذ فترة انتفاضة شبيهة في بلاده، عنصرها الأبرز شباب لا يختلف بشيء عن شباب مصر الغاضبين الأحرار، فيريدها ثورة إسلامية، تبشّر، والثورة التونسية، بولادة شرق أوسط إسلامي. في فرض الهوية هذا لعب بالنار ليس فقط لأنه يلغي المكوّن الآخر ـ المسيحي ـ للشعب المصري ولعدد آخر من الشعوب العربية، ويسمح لنفسه بتغيير الهوية العربية لوطن يمتد من المحيط إلى الخليج بقدر ما يمد جذوره في التاريخ والحضارة. لكن "أسلمة" الشرق الأوسط، على هذا النحو، هي أقصر السبل إلى تزكية النزاع المذهبي على هويته الإسلامية.

يستحق الموضوع الاقتصادي الاجتماعي وقفة لسبب إضافي هو أن "انتفاضات الخبز" العربية السابقة، منذ أواخر الثمانينيات، انتهت إلى تنازلات جزئية في الميدان السياسي ـ حيث سجلت المكاسب في ميادين التعددية الحزبية والإعلامية ـ على حساب أي تقدّم يذكر في الميدان الاقتصادي الاجتماعي. ناهيك عن أنها لم تصل إلى مرحلة طرح مسألة السلطة كما هو الحال الآن. لنقلها بإيجاز: الحرية مطلوبة ليس لذاتها فقط وإنما أيضاً لأنها الإطار الرئيسي، إن لم نقل الوحيد، الذي يسمح بالمعالجة الجادة لقضايا العمل والتنمية والخبز والتوزيع العادل للثروة. وليس من قبيل الصدفة أن تنطلق الإضرابات والاعتصامات العمالية في مصر لمجرد أن أعيد فتح المصانع في اليومين الأخيرين. وها هي النقابات المستقلة تتأهب لردف مطالب التغيير السياسي بالمطالب الأكثر إلحاحاً لعالم العمل بما فيها الأجور والأسعار.

كيف أمكن لحاكم مصر أن يجمع ثروة تتراوح بين 40 و70 مليار دولار أميركي؟ سؤال يعبّر عن دهشة استهجان عاتية لا يجوز أن تتبدّد بسرعة. للمقارنة، يبلغ دخل مصر السنوي من قناة السويس ثلاثة مليارات، ومن البترول 3,5 مليار، ومن المساعدات الأميركية 2,5 مليار. ولا يزيد دين مصر الإجمالي عن المئة مليار دولار (قارن مع الـ65 مليار لأربعة ملايين لبناني!). ثم أضف إلى ثروة العائلة ما تكشف الآن من ثروات بعض سياسيي النظام ورجال الأعمال فيه. ثروة وزير الإسكان 12 مليارا، وزير الداخلية 8 مليارات، أحمد عز 13 مليارا. هذا في وقت يعيش نحو نصف الشعب المصري بدخل يقل عن دولارين للفرد الواحد.

إنها ثروات جُمعت في ظل التواطؤ السياسي الإقليمي والعالمي والصمت الإعلامي. كان لا بد من انتظار جريدة مستقلة جريئة مثل "الغارديان" البريطانية للكشف عنها بعد ثلاثين سنة. ومع ذلك لم يرد ذكر ثروة مبارك مرة في المجلات الأميركية التي تنشر البيانات السنوية لثروات أغنى أغنياء العالم، علماً أن الرجل يحتل المرتبة الأولى بينهم. هل يندرج هذا النهب الفاحش في خانة "الفساد" التي يرطن الرئيس أوباما بضرورة مكافحته وتكرز وراءه وزيرة خارجيته؟ لا. لهذه الثروات وطرائق جمعها اسم آخر. إنه استغلال السلطة وسرقة المال العام وهدره عن طريق أرباح بيع القطاع العام والخصخصة وتنظيم الاحتكارات وحمايتها وقبض العمولات والرشاوى المليارية على صفقات السلاح والعقود والمقاولات. ولنتأكد من أمر واحد: لم يكن بالإمكان جمع مثل هذه الثروات إلا بالشراكة مع الشركات العالمية متعددة الجنسيات وتحت سمع وبصر ورعاية الإدارات في الدول الأوروبية والأميركية المختلفة. ولا كان بالإمكان تصوّر أن يجري هذا إلا في ظل نظام اقتصادي عالمي يتبيّن أكثر فأكثر أن وظيفته الرئيسية هي شفط الثروات والمداخيل من أسفل إلى أعلى، ومن الأفقر والمتوسط إلى الأغنى، على عكس ادعاء تسريبها من أعلى إلى أسفل.

ثروات حكّام تونس ومصر مجرّد عينة عن ثروات الحكّام العرب وطرائف جمعها. والامتحان الأكبر لثورتي البلدين، ولمهمات التغيير اللاحقة، هو القدرة على محاسبة هؤلاء الحكّام ومحاكمتهم واستعادة الأموال المنهوبة من الشعب إلى خزينة الشعب لتنفق لمصلحة الشعب.
"السفير"
 

التعليقات