15/02/2011 - 11:39

مبروك../ نهلة الشهال

سقط مبارك. فلنترك الفرح يغمرنا، وقد نسينا طويلاً كيف نفرح، من فرط ما اعتدنا على التحسب لاتقاء الضربات، وعلى احتساب المهمات الصعبة. إسقاط رأس النظام المصري هو بذاته منجز كبير

مبروك../ نهلة الشهال

سقط مبارك. فلنترك الفرح يغمرنا، وقد نسينا طويلاً كيف نفرح، من فرط ما اعتدنا على التحسب لاتقاء الضربات، وعلى احتساب المهمات الصعبة. إسقاط رأس النظام المصري هو بذاته منجز كبير. ومن يقُل سوى ذلك، ومن يبحث في خفايا الإدارة الأميركية عن «السر»، ومن يقلب الشفاه مشككاً، مذكراً بأن النظام باقٍ، بل هو ربما يجدد نفسه، يتغافل عن الأهمية العظيمة لما جرى. رمزياً بداية، حيث ثبت أنه يمكن اقتلاع المستبدين. التاريخ لا يني يؤكد ذلك، ثم ينساه الناس أمام هول ما يعيشون في ظل استبداد. هي لحظة من التاريخ إذاً. لكن من سطَّروها يعرفون صعوبة ما يلي. فقد بدأت المعركة الآن لإكمال المنجز، وهي بالتأكيد أعقد وأشق مما تحقق. ولكن إسقاط رأس النظام أتاح مباشرتها، وعدّل في الوقت نفسه في توازن القوى، بحيث راحت هيئات الشباب المشكلة على عجل، والأطر التي سبقتها، بل فتحت الطريق لها، وكانت قبل ذلك تجاهد لمجرد الاستمرار بسبب اليأس والإحساس باللاجدوى وباستحالة تحريك الواقع، راحت تشحذ عقولها لتقترح برامج وخطوات «لا بد منها»، ثم تقول «لا» حين لا يعجبها ما تراه. تبدَّد الخوف ومعه البلادة! وحدهم العدميون أو سيئو الطوية، يمكنهم التقليل من شأن ذلك. كما بالمقابل، وحدهم البلهاء يمكنهم الظن أن الأمور ستسير من تلقاء نفسها!

لكن السؤال اليوم يتعلق، كما كان بالأمس، بتعيين وتحديد المكان الذي يقف كل واحد منا فيه. فاليوم، حيال التعديل الذي لحق بتوازن القوى ذاك، يسعى من كانوا حتى الأمس أسماك قرش متوحشة (عدا تنطحهم لتصدر صفوف...الثورة)، إلى إشاعة أقصى تمويه لمعنى ما يجري. المعنى خاصية إنسانية بامتياز. وهو أقوى من أي سلاح.

بالأمس، كان مَنْ يدعو إلى إيجاد الطرق الكفيلة كي تحقق أمتنا ذاتها، كي تتحرر وتزدهر، يواجَه بالتسخيف والتيئيس. بالتشكيك بوجود الأمة ذاتها، ناهيك بقدرتها، وبـ«أهليتها»، كما كان يقول المتعالمون، متنبئاً لها بالانحطاط والزوال. ومن كان منهم أكثر تهذيباً، دعا إلى تسليم أمرنا لطريق مرسوم يديره الأميركان، بشرق أوسطهم الجديد، وأيَّد احتلال العراق كوسيلة وحيدة للتخلص من الاستبداد.

هل ننسى؟
العراق المحتل غرق في بحر من دماء أبنائه على أيدي المحتلين «المتحضرين» هؤلاء وزبانيتهم، وخلَّعت «ديموقراطية المكونات» التي اخترعها المنظرون الأميركان العراق إلى فئات ومذاهب، يساعدها في ذلك المال الوفير الموزع على شكل رشوات. بل الكهرباء، حتى الكهرباء، لم تُصلح في العراق بعد ثماني سنوات من الاحتلال، وقد بلغ الفساد حدوداً تتجاوز الخيال. بينما كانت توجد طرق أخرى للتخلص من الاستبداد، سطَّرها التوانسة والمصريون بسطوع أمام الجميع. فاذهبوا يا سادة إلى بيوتكم. اسكتوا قليلاً وراجعوا جريمتكم بحق هذه الأمة التي لم ينفع في كبتها لا فقر وحرمان، ولا قمع وتخويف، ولا إحباط وتحقير، ولا حتى خيانة معظم النخب!

هل ننسى - مثلاً - كيف خرج منذ بضعة أشهر السيد عبد المنعم سعيد، رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام، (الامبرطورية)، يقول في مقابلة تلفزيونية: «حعمل إيه لتسعة مليون مصري حوالين القاهرة بيعيشوا على أكل البطاطس»، وكأنهم كمّ زائد. ليت البحر ينشق فيبتلعهم ويريحهم من البؤس، ويريحه من عبئهم! تماماً مثلما كان القادة الإسرائيليون يأملون لغزة. وسعيد ذاك نموذج لسواه، وهم كثر، وبالأخص في أوساط النخب، وهم "الخبراء" المتعالون، المزدرون لشعوبهم، الذين يخجلهم فقرهم أمام الخواجات ، يصفونه بـ«القرف والتخلف»، ولا يفوِّتون لحظة دون إعلان النأي بأنفسهم عنهم. وهو كان، لزوم الشيء، في لجنة التطبيع العليا مع إسرائيل، وكان عضواً في قيادة الحزب الوطني الحاكم، وقرر الاستقالة عقب رحيل مبارك: ولكن بـ«ألاطة» على حد قول الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم.

فوفق بيان رسمي صادر في جريدة الأهرام ليوم السبت الفائت - أمسكوا أنفسكم جيداً - استقال الرجل بعد أن «اتضح للجناح الإصلاحي للحزب الوطني، الذي حاول طوال السنوات الماضية القيام بإصلاحات ديموقراطية واقتصادية، أنه يستحيل الإصلاح من خلال الحزب في ظل الظروف الراهنة»! يا سلام! تعالوا نعرِّف الإصلاح يا قوم. وأوله أن ننتهي من سخافة أن الشعب المصري قاصر ويمكن الضحك عليه. وهو، هذا الشعب (مفهوم آخر جرى احتقاره)، يقول اليوم لقوات الجيش التي جنبت البلاد المجزرة، «نحن الموضوع وليس انتم»، «سلموا بسرعة سلطاتكم إلى هيئة مدنية»، «الغوا حالة الطوارئ». هو الذي شكِّل، قبل سقوط مبارك، هيئة لتقصي الأموال والممتلكات المنهوبة من قبل الحكام والمتنفذين، بغية استردادها. وهو الذي كوَّن لجاناً في كل المدن والقرى، وليس فحسب في ميدان التحرير في القاهرة، لجانا لكل شيء، فيها النساء والرجال، المسلمون والأقباط والعلمانيون، الشباب والكهول، اليساريون والليبراليون والاسلاميون، وأدار ثورته بطريقة أفقية، وبتلمس خلاق للواقع. لجان توافق أعضاؤها على بضعة مبادئ (مفهوم هو الآخر تعرض للاحتقار) تمسكوا بها، وقبلوا من بعدها الاختلاف، وناقشوا حتى بُحت أصواتهم، وشحذوا عقولهم وخيالهم. تلك هي الثورة، وليس إسقاط مبارك ووكيل أمنه فحسب.

تحديد أين نقف إزاء ما يظهر من براعة المنظِّرين الجدد لما يجري، يسعون إلى تفسير الهزات بـ«تخلف المؤسسات السياسية عن اللحاق بركب اقتصاد السوق الذي نشأ في البلدان العربية في العقود الثلاثة الماضية»! فإن لم ينفع إلقاء اللائمة على الخصوبة المرتفعة (يعني: فقركم هذا بسببكم)، يصدروا بيانات ورسوماً تظهر أن معدلات النمو في بلداننا تفوق نظيراتها في البلدان المتقدمة، ويخلصوا إلى أن الانفجار حصل لأن «الانفتاح الاقتصادي لم يرافقه انفتاح سياسي» (يعني: تريد حرية الكلام؟ تكلم قدر ما تشاء!). وهدفهم صرف الأنظار عن النموذج الاقتصادي للعقود الثلاثة الماضية ـ على الأقل ـ وعن الخيارات المعتمدة. لأن «التقصير السياسي» يمكن علاجه بإجراءات يسيرة ومضبوطة، وإن أغضبتْ شريحة من المستفيدين: بعض الشفافية والإصلاح، ومؤسسات منتخبة، وطاقم جديد نظيف (إلى حد ما، وحتى إشعار آخر!). وهذا ما تدعو إليه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ومعهما... صندوق النقد الدولي! يكاد هؤلاء ينسون مفاعيل ونتائج ما يقولونه هم أنفسهم في السياق، عن حصة العوائد الريعية في هذا الاقتصاد، وعن اقتصار الصناعات المقامة في بلداننا على تلك التدويرية، بل الـ«أوف شور» المعدة لإعادة التصدير، وعن طغيان المداخيل غير الإنتاجية وتلك الخدماتية، وعن الارتهانات المتعددة والبنيوية للأسواق العالمية. أي أن هذا الاقتصاد «الرائع» بحسب الأرقام، (وهل من شيء أكثر علمية من الأرقام؟) مشكّل من قطاعات هشة، وغير مرتبطة بدورة إنتاج وطنية، وهو يصب عائداته في جيوب شريحة رقيقة لا علاقة لها بمجتمعاتها ويتجه كل همها نحو كيفية تحقيق مزيد من «اقتناصها»، بمقابل أقل قدر ممكن من رعاية شؤونها، إلا بالقمع. وهو اقتصاد دمر الزراعة لصالح المضاربة العقارية من جهة، ولصالح السمسرة لاستيراد الغذاء بالكامل، من جهة أخرى لعلها الأساس.

الثورة؟ هي يا سادة أن يتمكن كل إنسان من وضع «معنى» على البؤس والقمع وانسداد الأفق. ومعه يا سادة استعادة الأمل، والحلم، والاعتزاز بالنفس، والثقة بالقدرة على الانجاز، وهذه معطيات سياسية وليست شعراً. بل هي حقول الهجوم العدواني علينا، هدف القذائف الحارقة، سواء تلك التي أطلقتها الطائرات المغيرة، أو تلك التي أطلقتها السياط في أقبية التعذيب، أو تلك التي أطلقتها الإعلانات الترويجية للبضائع التي لا بد من شرائها حتى "يوجد" واحدنا، أو تلك التي أطلقتها المقالات والدراسات التي كتبها الخبراء بحبر احتقارهم للناس. الثورة هي جملة غيفارا التي تعرضت هي الأخرى للاستهزاء: "كن واقعياً، اطلب المستحيل"!
"السفير"
 

التعليقات