16/02/2011 - 10:09

سقوط الفزَّاعات../ علي جرادات

مثلت انتفاضتا تونس ومصر حدثا عربيا تاريخيا. تأخر انتقال إمكانيته إلى واقع. رغم توفّر شرطه الموضوعي منذ سنوات. جرى خلالها فبركة فزَّاعات وجه عدة هبّات شعبية سبقته وراكمت باتجاهه. واليوم يجري رَفْعُ ذات الفزَّاعات في وجه تطوير هذا الحدث التاريخي وامتداده وتعميقه

سقوط الفزَّاعات../ علي جرادات
مثلت انتفاضتا تونس ومصر حدثا عربيا تاريخيا. تأخر انتقال إمكانيته إلى واقع. رغم توفّر شرطه الموضوعي منذ سنوات. جرى خلالها فبركة فزَّاعات وجه عدة هبّات شعبية سبقته وراكمت باتجاهه. واليوم يجري رَفْعُ ذات الفزَّاعات في وجه تطوير هذا الحدث التاريخي وامتداده وتعميقه.
 
 فزّاعات قامت على فرضية أن الشعوب العربية ليست كباقي شعوب العالم. وأنها ما زالت خارج التاريخ. هذه الفرضية العنصرية خلقها العقل الاستشراقي الموشح بثقافة "المركزية الأوروبية". تلك الثقافة التي بررت الاستعمار ونهبه للشعوب. وروجها، (بوعي يعكس مصلحة)، النظام الرسمي العربي التابع. وابتلعتها، (بجهالة تنم عن ضحالة فكرية)، نُخَبٌ قيادية للعديد من  المعارضات العربية. التي لم تبنِ برنامجا تحرريا منسجما بديلاً لبرنامج النظام السائد في الوعي والممارسة.
 
   لقد تغلغل هذا الوعي العنصري المسبق عن الشعوب. وسرى عميقا في وسط وجنبات الحالة العربية. وأصبح بمثابة مفرخة لليأس والإحباط والقنوط وعدم الثقة بالنفس. إلى درجة  تصديق خرافة أن المجتمعات العربية عصية على التغيير بما يعتمل داخلها من تناقضات سياسية اجتماعية. وكأنها حالة بشرية شاذة، لا تتغير إلا من خارجها. وتحديداً على يد قوى استعمارية. أذلت شعوبها ونهبت خيراتها واحتلت جغرافيتها وأعاقت خيارتها المستقلة في الوحدة والتحرر، عبر فزاعات:
 
 1: إما الاستبداد أو الأصولية. بينما أكدت التجربة العملية أن استبداد النظام الرسمي العربي وتبعيته، هو الحضن الدافئ لتوالد مختلف أشكال الأصولية وتناميها. ذلك أن الاستبداد والأصولية توأمان يغذي أحدهما الآخر. ويرضعان من ثدي ضرورة "الوصي" على الشعوب، الذي إن غاب ساد الخراب. وبهذا يتشارك الاستبداد مع الأصولية في معاداة الديموقراطية السياسية والاجتماعية التي لا تشكل مغطسا للتطهر من الاستبداد فقط، بل تشكل العلاج الشافي من الأصولية أيضا.
 
   وقد جاءت وقائع انتفاضتي تونس ومصر لتبرهن بالملموس على كم هي مضخمة فزاعة الأصولية. ولتكشف عن ما تختزنه الشعوب العربية من طاقات شبابية وشعبية هائلة، هي لا مع الاستبداد، ولا مع الاصولية، ولا مع علاقات النهب والتبعية. بل هي مع بناء مجتمعات تسودها الحرية والديمقراطية والكرامة والعدالة. 
  
2: إما الاستبداد أو الفوضى. بينما أكدت التجربة العملية أن استبداد النظام الرسمي العربي وتبعيته، كان بمثابة قابلة للتفتيت والتجزيء و"الفوضى الخلاقة" لكل أشكال التذبح والتقتيل الطائفي والمذهبي والإثني. وقد أثبتت وقائع انتفاضتي تونس ومصر بالملموس كم هي منفوخة ومُخَطّطّة فزاعة الفوضى. وأظهرت ما تختزنه الشعوب العربية من طاقات هائلة، تتوق للتنظيم والانتظام والانصهار السياسي في مشروع وطني تحرري موحد. يلفظ الفوضى ودعاتها. وينأى وعيا وممارسة عن كل أشكال التفتيت. وما يخلقه من تذبيح جاهل مدمر. ثبت أن الشعوب بريئة منه براءة الذئب من دم يوسف.
 
3: إما الاستبداد أو التدخلات الخارجية. بينما أكدت التجربة العملية أن استبداد النظام الرسمي العربي وتبعيته، كان المسؤول الأول والأخير عن غياب المشروع القومي العربي. ما فتح الباب واسعا أمام التدخلات الخارجية الإقليمية والدولية في الشؤون العربية وقضاياها. وقد جاءت وقائع الدعم الشعبي العربي السريع والتلقائي لانتفاضتي تونس ومصر، (وللأخيرة بخاصة)، لتبرهن بالملموس على توق الشعوب العربية الجارف لاستعادة الأمة العربية لدورها ومكانتها ومشروعها القومي المستقل بقيادة مصر، القادرة دون غيرها على قيادة العرب وصون مشروعهم القومي.   
 
4: إما الاستبداد أو الإرهاب. بينما أكدت التجربة العملية أن استبداد النظام الرسمي العربي وتبعيته، هو مَن عطّل الخيارات الديمقراطية العربية سياسيا واجتماعيا وتنمويا. مع ما خلقه ذلك من ثراء فاحش وفساد وإفقار وبطالة وجهل وتخلف وإذلال وحطّ للكرامة......كدفيئة نموذجية لتوالد حركات التطرف والجهل الإرهابية، كإجابة وهمية خاطئة على السؤال الصحيح. وقد كشف الانخراط الجماهيري السلمي المنَظّم الهائل في انتفاضتي تونس ومصر، عن كم هي معزولة وهامشية ومصنوعة تلك الحركات الإرهابية. وكم هو بالمقدور معالجتها بالنضال الشعبي المنظّم السلمي الديمقراطي.     
          
   قصارى القول، قبل اندلاع الحدث العربي التاريخي، (انتفاضتي تونس ومصر الشعبيتين). ورغم نُذِرِ هبات شعبية سبقته. سادت اليأسية، حتى لدى النخب القيادية للعديد من المعارضات العربية. إلى درجة استبطان وعي عنصري مسبق يقول: إن المنطقة العربية ما زالت خارج التاريخ.
 
   وعليه، لم تجازف حتى أكثر التحليلات تفاؤلا للمشهد العربي بأكثر من القول: إن التناقضات المحتدمة في المجتمعات العربية مرشحة للانفجار. وذلك انطلاقا من أن مرحلة الجزر تنطوي على المد. وحسبان "أن إمكانيات التاريخ أوسع من الواقع".
 
   بل إن تلك القراءات المتفائلة، لم تشخص الشرط الموضوعي للثورة، إلا من باب طرد اليأسية والحفز على التغيير. لا باعتبار أنه وشيك وممكن واقعياً. بل من قبيل أن "تشاؤم العقل يجب أن لا يلغي تفاؤل الإرادة".
 
   وحتى بعد اندلاع الانتفاضة التونسية. كانت هنالك نظرة تعتبرها حالة استثنائية لا تزكي القول: إن لهيبها سيمتد بسرعة إلى مجتمعات عربية أخرى. وأكثر من ذلك. فقد ظلت تلك النظرة رائجة حتى بعد اندلاع الانتفاضة في مصر، مفتاح الأمة ومعيار عافيتها.
 
   هنا، وبعيدا عن فزاعات الاستبداد الباطلة ووعيها العنصري التجريدي المسبق عن الحالة العربية. وفي ضوء الحدث التاريخي العيني الحي، ممثلا بانتفاضتي تونس ومصر الشعبيتين، فضلا عن صداهما الجاري عربياً من المحيط الى الخليج. فإن لا مجازفة في القول: إن حاضر العرب يشهد انعطافة تاريخية فعلية. وضعتهم في أتون مرحلة انتقالية صراعية، مثقلة بعمليات هدم للقديم وبناء للجديد. باتت صياغة المحصلة النهائية لهذه المرحلة، أقرب إلى إرادة الشعوب، منها إلى طوع بنان عناصر قوة الأنظمة الرسمية وهيمنتها.
 
   لقد انتقل صدى شعار "الشعب يريد اسقاط النظام" من تونس الى مصر. وها هو يدوي في اليمن والبحرين والجزائر..... وبهذا تكون صيرورة تاريخية فعلية للتغيير قد انطلقت في كامل الواقع العربي. ولم يعد بمقدور فزاعات النظام الرسمي العربي كبحها، بعد أن ذرت وقائع الانتفاضتين التونسية والمصرية زيف هذه الفزاعات وبطلان ما تضمره من وعي عنصري تجريدي مسبق.  

التعليقات