21/02/2011 - 11:37

مصر تتغير: خليج مغاير../ بدر الإبراهيم*

الجماهير العربيّة التي تظاهرت أمام السفارات المصرية على امتداد العالم العربي مطلع عام 2009 مندّدةً بالانحطاط السياسي الذي أوصل قائدة الأمة العربية إلى أخذ دور الأداة الصغيرة في يد إسرائيل والمساهَمة في حصار الفلسطينيين في غزّة وتجويعهم وقتلهم، هي نفسها الجماهير التي خرجت ليل الحادي عشر من فبراير/ شباط احتفالاً بعودة مصر إلى نفسها وطبيعتها وانتصار شعبها على جلاديه الذين هم جلادو أمته العربية

مصر تتغير: خليج مغاير../ بدر الإبراهيم*
الجماهير العربيّة التي تظاهرت أمام السفارات المصرية على امتداد العالم العربي مطلع عام 2009 مندّدةً بالانحطاط السياسي الذي أوصل قائدة الأمة العربية إلى أخذ دور الأداة الصغيرة في يد إسرائيل والمساهَمة في حصار الفلسطينيين في غزّة وتجويعهم وقتلهم، هي نفسها الجماهير التي خرجت ليل الحادي عشر من فبراير/ شباط احتفالاً بعودة مصر إلى نفسها وطبيعتها وانتصار شعبها على جلاديه الذين هم جلادو أمته العربية.

في الحالتين كانت الجماهير تعبّر بالغضب والفرح عن مكانة مصر العربية. كان هذا التعبير إشارة واضحة إلى وعي كبير لدى هذه الجماهير بحقائق التاريخ والجغرافيا التي لا يستطيع مبارك أو غيره إنهاءها، وهي التي تثبّت مكانة مصر عند العرب وتأثيرها عليهم عبر الأزمان. والخروج الاحتفالي هنا هو تعبيرٌ عن حجم التأثير الذي لم تقلل منه نكبة كامب ديفيد، بل أخفته وحجبته لفترة قبل أن يعود عبر ثورة شعبية كاملة لا مثيل لها في تاريخ مصر الحديث.

الثورة صنعتها رغبة الناس في استرداد كرامتهم التي أهدرها النظام، فالإفقار والتجويع وتعزيز البطالة والقمع البوليسي والترويع والتبعية للعدو كلها عوامل إذلال وانتقاص من كرامة الناس. كانت ثورة عظيمة بكل المقاييس، وهي أيضاً حدثت في قلب العالم العربي النابض، وهو ما يجعل تداعياتها لا تقتصر بالتأكيد على النطاق المحلي. فالحدث المصري سيحدث تغييرات كبيرة في خريطة المنطقة. ورغم أنّ المصريين خرجوا لعوامل داخلية تتعلق بتسلط النظام عليهم، إلا أنّ طبيعة ما هو داخلي في مصر هي طبيعة عابرة للحدود تاريخياً، والوصول إلى نظام ديموقراطي حديث من خلال الثورة يؤدي بالضرورة إلى عودة مصر إلى دورها الكبير.

يمكن الإشارة هنا إلى مسألتين مهمتين: الأولى هي أنّ قيامة مصر مرتبطة عضوياً بالعروبة، فإذا كان العرب يفتقدون دور مصر حين تغيب ويتضررون كثيراً بسبب هذا الغياب، فإنّ مصر أيضاً تتضرر من غيابها عن محيطها العربي وعن دورها الذي تفرضه حقائق التاريخ والجغرافيا. وقد تبيّن عبر التجربة التاريخية ارتباط نهوض مصر بدورها الاستراتيجي في المنطقة، وأنّ حجم هذا الدور والحضور مرآة عاكسة لمدى التقدم والازدهار المصري الداخلي.

المسألة الثانية أنّ الصراع مع إسرائيل لا يرتبط بقضايا الأرض والحدود وحسب، بل هو صراع وجود وإرادات يرتبط بسياسات الهيمنة الاستعمارية التي تُوَظِّف إسرائيل للهيمنة على القرار والمقدرات في هذه المنطقة وتثبيت التفوق الإسرائيلي (وتالياً الغربي) الكامل على دول المنطقة في كل المجالات. وهو ما يعني أنّ أي مشروع نهضوي أو تنموي عربي يراد به إخراج العرب من حالة الضعف وبناء دولة قوية هو مشروع تحدّ لإسرائيل والغرب الداعم لها.

مثلاً، كانت رغبة عبد الناصر في تأميم قناة السويس سبباً للعدوان الثلاثي 1956. وكان بناء السد العالي وقيام المشاريع التنموية في مصر وتصاعد دورها وحضورها في المنطقة والعالم في ذلك الوقت سبباً لعداء أميركي سافر لعبد الناصر ومواجهة شاملة معه ومع نهجه. لذلك يمكن القول إنّ تبنّي خيار النهوض والتحديث يضع مصر حكماً في خانة العدو بالنسبة إلى إسرائيل، وهو ما يجعلها لهذا السبب (وطبعاً لأسباب أخرى أهمها الوجدان المصري الشعبي المتمسك بفلسطين) في قلب الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي من جديد. يؤكد هذا قدرية العروبة بالنسبة إلى مصر.

يمكن البناء على ما سبق (قدرية مصر بالنسبة إلى العرب وقدرية العروبة بالنسبة إلى مصر) للقول بأنّ ما قبل ثورة 25 يناير مختلف كلياً عمّا بعدها، وأنّ أثر هذه الثورة سيُشاهد بوضوح من المحيط إلى الخليج. ورغم الدعايات التي يحاول البعض تسويقها وتفيد باختلاف بين الواقع في الخليج وبين التجربتين المصرية والتونسية، إلا أنّ الوقائع على الأرض وحقائق التاريخ التي تشرح التأثير المصري على الخليج تكذّب هذه الادّعاءات.

تاريخياً، أثّرت ثورة 23 يوليو/ تموز على الأوضاع في الخليج بنحو كبير. فقد أسهمت أولاً في خلق وعي عربي جديد لم يكن الخليج مستثنىً منه. كذلك دفعت باتجاه حراك سياسي شعبي خليجي من خلال صعود الفكر القومي واليساري في ذلك الوقت وإسهامه في تكوين تنظيمات سياسية قومية ويسارية «مشاغبة» وإحداث تغيير واسع في الفكر السائد في المجتمعات الخليجية. وكان الإعلام المصري ممثلاً بإذاعة «صوت العرب» يسهم في تكوين الرأي العام الخليجي والضغط باتجاه التحديث في دول الخليج التي حاولت مواكبة التحول الفكري في المزاج الشعبي ومواجهة المدّ الناصري. وتُرجم هذا الأمر في السعودية مثلاً من خلال تسريع إلغاء الرق وتأليف لجان لصوغ نظام الحكم والدخول في مواجهة مع السلفيين المتشدّدين بفتح باب تعليم البنات وافتتاح التلفزيون الحكومي.

لقد مثّل التغيير في مصر في ذلك الوقت تحدياً سياسياً وتنموياً لحكومات الخليج الراغبة في الحفاظ على الاستقرار السياسي في بلدانها ومواجهة إفرازات ثورة يوليو التي حقّقت بما يسمّى «تأثير الدومينو» تغييرات واسعة أطاحت أنظمة عربية وغيّرت خريطة المنطقة. لذلك كانت المحاولات المتقدمة لاستيعاب التحولات المحيطة من خلال بعض الإصلاحات الضرورية لمواكبة التغييرات، والمشهد اليوم ربما يكون أكثر تحدياً لدول الخليج في هذا الإطار.

ثورة 25 يناير تختلف كثيراً عن ثورة يوليو. فعلى عكس ثورة يوليو التي بدأت انقلاباً عسكرياً قبل أن تتحوّل إلى ثورة، فإنّ ثورة يناير هي ثورة شعبية شاملة صنعتها البورجوازية الصغيرة (الطبقة المتوسطة) والشباب المتحفز للتغيير من دون شعارات أيديولوجية ومن دون قيادة سياسية واضحة. وهو ما يجعل تأثيرها أقوى بكثير وأسهل في الاقتداء به، خصوصاً أنّ الشباب الثائر في مصر لا يختلف كثيراً عن شباب الخليج من حيث التطلعات العامة للعدالة والديموقراطية والتحديث، أو من حيث المشاكل التي يعانيها من تهميش وبطالة. كذلك فإن الطبقة الوسطى التي صنعت التغيير في مصر لا تزال أكبر وأكثر فاعلية في الخليج رغم ما تعانيه من اضمحلال في السنوات الأخيرة سبّبه الفساد والتضخم وفشل المعالجة الاقتصادية في بعض الدول الخليجية.
لا يعني هذا بالتأكيد أنّ الثورة آتية لا محالة في دول الخليج، لكنّه يعني أنّ الأوضاع المتشابهة التي أدت إلى ثورات في تونس ومصر تحتاج إلى معالجة جادة من خلال القيام بسلسلة إصلاحات واسعة قبل أن تتفاقم الأمور أكثر. وما حدث في مصر بالذات، لا بد له أن يترك أثراً على الحياة الاجتماعية والسياسية في البلدان الخليجية.

لا شك في أنّ الأوضاع في دول الخليج متفاوتة، وبالتالي فإنّ الأثر الذي ستتركه ثورة يناير سيكون متفاوتاً أيضاً. لكن القاعدة العامة هي أنّ تغييراً ما لا بد أن يحدث في وعي الناس وسلوكهم بما يتطلب تحركاً رسمياً يلبّي تطلّعاتهم وطموحاتهم في التغيير. وإذا كانت أوضاع بعض الدول، كعمان والإمارات وقطر، مستقرّة إلى حد كبير نظراً للاستقرار المادي والاقتصادي في مقابل عدد المواطنين البسيط، فإنّ أوضاع دولة كالبحرين هي سيئة بكل المقاييس، مما يجعلها تشهد استجابة سريعة لتأثير الدومينو المصري لا يمكن التنبؤ إلى أين يمكن أن تصل بالبلاد.

في البحرين، عانى الشباب الفساد والبطالة والفقر وغياب فرص العمل بالإضافة إلى لعب الحكومة اللعبة الطائفية من خلال التمييز في الوظائف وعملية التجنيس المراد بها قلب المعادلة السكانية في البلاد على أسس طائفية. كذلك زُيّفت العملية الديموقراطية الموعودة وساد الخيار الأمني في التعاطي مع الناس. وقد وجد الاحتقان الكبير طريقه للتفجر بعد ثورتي تونس ومصر من خلال التظاهرات الشعبية الواسعة المرشحة للتحول إلى ثورة شاملة قد تقود البلاد إلى واقع جديد ما لم تستوعب الحكومة الدرس وتهرع إلى معالجة سريعة لخطاياها.

الكويت أيضاً أمامها تحديات كبيرة في ظل الوضع المتفجر أصلاً بين الحكومة وبعض نواب مجلس الأمّة، وفي ظل عدم الرضا الواسع على الأداء الحكومي وارتكاب الحكومة الكويتية لأخطاء كبيرة وصلت إلى حد تعذيب المساجين حتى الموت. كذلك هناك أيضاً مشكلة «البدون» المتفجرة ومطالبات فئات معيّنة بحقوقها المهضومة، وغيرها من القضايا الساخنة التي تحتاج إلى معالجة سريعة.

أما البلد الخليجي الأكبر والأكثر تأثيراً ونفوذاً، أي السعودية، فهو يعاني كثيراً ويبدو التذمّر الشعبي فيه واسعاً وكبيراً من بطء عجلة الإصلاحات وتغلغل الفساد في المؤسسات حتى بات عقيدة مؤسساتية. وصار هدر المال العام أمراً غير مستغرب، وزاد عدد اللصوص من الصغار والكبار في ظل غياب الشفافية والرقابة وأنظمة المحاسبة الرادعة.

السعودية بلد غنيّ بموارده النفطية، لكن سؤال «أين تذهب أموال النفط؟» يدور على ألسنة كثير من السعوديين المتذمّرين من سوء الإدارة المالية والنهب المتواصل للمال العام الذي ترك أثره على مر السنين على مستوى الخدمات الأساسية المقدمة للمواطن السعودي التي لا يمكن استيعاب سوئها في بلد غني كالمملكة.

صار الفساد حديث المجالس ومحلّ تندّر وسخرية في رسائل البريد الإلكتروني ومنتديات الإنترنت وصفحات «فايسبوك» و«تويتر»، مع تداول أسماء الفاسدين ومواقعهم وصفقاتهم المشبوهة. وكانت جدة، المنكوبة بكارثة ثانية من السيول خلال عام (إضافة إلى نكبتها باستضافة الرئيس التونسي المخلوع)، شاهداً جديداً وليس أخيراً على غياب المحاسبة الكاملة للمتسببين في الكارثة الأولى وتمييع قرارات الملك والالتفاف عليها بتعليق المسؤولية على صغار الفاسدين وحماية كبارهم بل وتكريمهم.

يضاف إلى هذا ارتفاع معدّلات الفقر واضمحلال الطبقة الوسطى المتواصل وزيادة معدلات البطالة بين الجامعيين وغياب سياسات فاعلة لاستيعاب الشباب وتوظيفهم وغياب القنوات الرسمية القادرة على منحهم فرصة التعبير عن ذواتهم.

مسألة الشباب ووضعهم تبدو في غاية الأهمية مع الحدثين المصري والتونسي، والواقع أنّ الشباب السعودي تحت سن 30 سنة يؤلّف غالبية في المجتمع السعودي (70%)، غير أنّه مغيّب عن المشهد وصناعة القرار التي تسيطر عليها أقلية متقدمة في السن في الوزارات والمؤسسات الحكومية المختلفة. وهذا تحديداً ما يقود إلى الحديث عن فجوة آخذة في الاتساع بين الشباب والمسؤولين. والاختلاف هنا ليس فقط في المتطلبات والطموحات بل أساساً في اللغة المختلفة كلياً بين الطرفين (اختلافَ الجمل و«فايسبوك» مثلاً!) مما يؤدي إلى غياب التفاهم على أرضية مشتركة ويسهم أكثر وأكثر في توسيع الفجوة. فلغة الشباب اليوم وما يعبّرون عنه وما يتأثرون أو سيتأثرون به على مستوى الوعي والثقافة بحاجة إلى استيعاب حقيقي لا شكليّ يأخذ في الحسبان متغيرات العصر ومتطلبات التحديث وضرورة الخروج من زنزانة القرون الوسطى.

المطلوب اليوم إجراء إصلاحات واسعة وأساسية تشمل وضع خطط حقيقية لاستيعاب الشباب العاطل في سوق العمل وإنهاء منظومة الفساد والمحسوبيات التي أوصلت البلاد إلى أوضاع لا تليق على الإطلاق. ولا يكون إنهاء الفساد إلا بالتأسيس للشفافية والمحاسبة القائمة على رفض الاستثناءات والامتيازات الفئوية أياً كانت، إذ إنّ موارد الدولة للشعب كله. كذلك يجب الضرب بيد من حديد على كل من تسوّل له نفسه سرقة مال الدولة والشعب والتلاعب بالممتلكات العامة،على أن ينعكس وقف هدر المال العام تحسيناً للخدمات الصحية والتعليمية والخدمات الأساسية الأخرى بالنحو اللائق، والعمل على تقوية البنية التحتية والاستثمار في الإنسان السعودي وصولاً إلى خلق موارد جديدة للبلاد غير النفط ومشتقّاته.

يبدو مهمّاً اليوم أكثر من أي وقت مضى تفعيل المشاركة الشعبية في صناعة القرار على مستوى دول الخليج لسدّ الفجوة المذكورة سابقاً، وإشراك الشباب الممثل لأغلبية المجتمعات الخليجية في العملية السياسية من خلال انتخابات المجالس البلدية والبرلمانات وصولاً إلى مشاركة كاملة في صناعة القرار داخلياً وخارجياً، إضافة إلى إصلاح النُّظُم والخدمات المختلفة وتحسين أوضاع المرأة والأقليات وفتح المجال أمام حرية التعبير والإعلام، والتأسيس لمجتمع مدني حقيقي.

الإصلاح السياسي والاقتصادي بات هو المطلب اليوم على الصعيد الداخلي في دول الخليج كلها، وهو الحل الممكن بالنسبة إلى تلك الدول لاستيعاب آثار ما يحدث حولها وفهم الوعي الجديد الآخذ في التكوّن شعبياً. وتحقيق هذا الإصلاح بخطوات ثابتة وجداول زمنية يشير إلى فهم كامل للمرحلة الجديدة التي دخلتها المنطقة. مرحلةٌ لا تغني فيها الولايات المتحدة ولا تسمن من جوع أمام الوعي الشعبي المتنامي. ولعل بعض الدول تتنبّه للتخلّي الأميركي السريع عن الرئيسين المخلوعين في مصر وتونس لتبدأ عهداً جديداً في السياسة الخارجية يقوم على تغليب مصالح الشعوب والتسليم بتهاوي الدور الأميركي في المنطقة ووجوب التفاهم مع القوى الإقليمية النافذة لخلق واقع إقليمي جديد بما يخدم مصالح دول المنطقة وشعوبها.

إن أي معالجة أخرى للمرحلة الجديدة سواء من خلال تشديد القبضة الأمنية وتكميم الأفواه، أو من خلال تفعيل الأصوات السلفية والقبلية المرددة لعبارات تجاوزتها المرحلة، أو بالمراهنة على الخارج، أو حتى من خلال السلبية في التعاطي مع المتغيرات والزعم أنّها لا تؤثر والتصرف كأنّ زلزالاً لم يحدث في المنطقة ليغير معالمها، ستكون آثارها سلبية على هذه الدول. وهي بالتأكيد معالجة غير فاعلة لواقع يتطلب تعاطياً ذكياً وحكيماً خصوصاً في ظل الأثر السريع الذي تبدّى في اليمن والبحرين وما يمكن أن ينجم عنه من تغييرات كبيرة.

كذلك فإنّ استنساخ تجربة أنس الفقي بالدعاية الإعلامية المثيرة للسخرية لم يعد ذا قيمة وفاعلية. ويبدو أنّ من يقوم بهذا الأمر لا يلحظ أنّنا في عصر ثورة الاتصالات وثورة الشباب على الإعلام التقليدي، وأن منابر الإعلام البديل مفتوحة في كل وقت لنقل الخبر بالصوت والصورة وفتح الباب أمام التعبير الحر عن الآراء والأفكار وفرض أجندتها في النهاية على الإعلام التقليدي وفضحه وتعريته. ولن تنفع لوائح تنظيم النشر الإلكتروني التي تريد وزارة الإعلام السعودية من خلالها كبح جماح الحركة الإلكترونية الناشئة وإخضاعها لآليات الرقابة القديمة في شيء. لقد تغيّرت اللغة وتغيّر العالم ولا يمكن مقاربة الموضوع من خلفية «رجعية» بعد اليوم.

لابد هنا من تأكيد مسؤولية النخب في هذه المرحلة الجديدة. فالنخب الفكرية والثقافية الخليجية مسؤولة اليوم عن اتخاذ موقف واضح لا لبس فيه من ضرورة الإصلاح وتوجيه سَبَّابَة القلم والفكر إلى مواطن الخلل من منطلق الولاء للأوطان والحرص عليه، لأن الولاء لا يترجم بتشجيع فريق الكرة الوطني أو ترديد الشعارات المستهلكة عن حب الوطن، بل بالعمل الجاد والمطالبة الجادة بما يخدم مصلحة الشعب والوطن ويحقق التقدم المنشود.

لقد بدأ الفرز وسيكون بطريقة أوضح في الفترة المقبلة: بين أبواق السلطة وأصحاب المصالح الشخصية المتشدقين بشعارات الحرية والليبرالية الذين يملأون وسائل الإعلام المرئية والمسموعة ويسهمون في الدعاية الإعلامية الرسمية الرديئة وتبرير الأخطاء، وبين المثقفين الحقيقيين ممن يفهمون أنّ الثقافة بلا موقف مجرد خواء فكري مجمّل بقشور، وأنّ اللحظات والمراحل التاريخية تستدعي مواقف تاريخية تنحاز إلى مبادئ وأفكار حرة وإلى خيارات الناس ومصالحهم.

الشباب أيضاً يحمل مسؤولية المرحلة، ويمكنه أن يصنع مع النخب خطاباً جديداً بلغة المرحلة الجديدة يسعى بكل قوة ممكنة إلى تحقيق آمال الخليجيين وتطلّعاتهم. وهو اليوم، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي التي منحت الفرصة لكل فرد في التعبير عن ذاته، يؤسس لوعي جديد مستفيداً من تقنيات العصر وتراكم التجربة الإنسانية والأحداث في مصر وتونس، مما يشير إلى بوادر المرحلة الجديدة التي سيكون فيها للشباب الدور الأبرز.

لعل الكلمة السحرية التي يجدر بالجميع ترديدها في هذه المرحلة هي: لا يمكن التنبؤ بما سيحدث، لأنّ ما حدث أنّ توقعات النخب وتحليلاتها سقطت، كما سقطت الأنظمة بصلفها وجبروتها أمام فورة الشباب ووعيهم الجديد الذي أدهش العالم. وقد ثبت بالتجربتين المصرية والتونسية أنّ الحاجة ماسة إلى مراجعة نظريات وتحليلات كثيرة، وأنّ بعض النخب والمثقفين لم تسعفهم لياقتهم للحاق بركب الشباب وخطابهم وحراكهم الذي أثمر حريةً لم تكن في الحسبان. لذلك كله من الضروري محاولة فهم ما جرى ويجري وفق اللغة الجديدة للمرحلة وأدواتها بدلاً من ترديد كلام يبدو أن الزمن قد تجاوزه بالفعل.

إن أمام شعوب الخليج ودولها فرصة تاريخية لتحقيق النمو والتقدم وتصحيح الأخطاء وخلق واقع جديد يتناسب والمرحلة الجديدة في المنطقة التي خلقتها الثورتان المصرية والتونسية. ولا شك في أنّ قطار التغيير قادم، والمهم هو كيفية التعاطي معه. يمكن في هذا الإطار الإفادة من تجربتين ماثلتين أمام الجميع، كما الإفادة من تجارب الماضي القريب والبعيد، لأنّ التعقل والحكمة وفهم ما يجري طريق النجاح في تجاوز صعوبات المرحلة.
"الأخبار"

التعليقات