02/03/2011 - 15:52

اتجاهات التحول "الثوري" في الشارع العربي../ نزار السهلي

الخروج عن المألوف عند الشعب العربي لا يدهش العقل طالما كان الإيمان بأن هذه الشعوب تمتلك القدرة على قلب كل النظريات والشعارات التي باسمها جرى امتهان وظيفة "الوطن" وساكنه "النسمة" بدل"المواطن" وخلق حالة وثقافة من الاستكانة الوظيفية القادرة على تقديم أشكال الظهور "للزعيم" واختفاء الوطن والمواطن في جيبه الخلفي

اتجاهات التحول
بصورة عامة يشهد العالم العربي منذ ثورة تونس ومصر، تحولا دراماتيكيا لنفض وكنس طفيليات الطبقة المنعمة بفحش الثراء والاستبداد بالسلطة، وشيئا فشيئا يتضح ميل سيرورة الأحداث نحو نزع تأثيرات الهيمنة والاستئثار بالشعب، عوامل هذه السيرورة كثيرة أهمها: أن الحرب ضد قيم ومثل الشعب العربي لم ولن تحسم نهائيا من قبل تلك الطبقات التي ربطت نفسها "بأجندات" تمثلها الرجعيات العربية اجتهدت من خلالها لافتراس كل روح المقاومة لدى الشعب العربي وتصفية مشروع الدولة والأمة بالعودة إلى العشيرة والطغمة والطائفة من خلال التوسع المذهل للفساد الذي ارتدى طابعا سياسيا مملوكيا كتعبير عن انفصال الحكم عن الأمة.
 
كان طبيعيا أن ينعكس تأثير تلك الثورات والتحولات على ميدان الشارع العربي، التي تبرعمت في وعيه مجددا معاني وقيم الثورة. ولأصداء يقظة الوعي القومي مفاعيل تتجمع عند لفظ لعنة "الاحتقار والحقد على الذات العربية" فنشأت نظرة مختلفة قائمة على معاني الكفاح التي تعبر عن صبوات الشعب وعن أشواقه المتحرقة للكرامة والحرية.
 
لقد ميزت الثورات في تونس ومصر وليبيا واليمن وأي بقعة أخرى سمة الاستمرارية عند العقل العربي الذي صورته اتجاهات النظم تابعا وجامدا ومصادرا من طفيليات الطبقة الحاكمة التي استطاع الشعب العربي تجاوز كل الصور النمطية التي وضعها في إطاره "المستورد" الحاكم، ويأخذ من الثورة دون تبعية ودون أجندة انتفض عليها ليستعيد قدرته على التفكير اعتمادا على تجاربه المعاشة، فالتدقيق التاريخي يكشف أن الشوق للتغير وللحرية والكرامة ينبع أساساً من العقل العربي الذي يرفض التبعية والأجندة الخارجية الاستعمارية في الثقافة والنهب الاستعماري، وأن كل هذا التحول ينفي مقولات الصهيونية والغرب وأمريكا عن تزييف واحتقار ودونية العقل العربي بعد تضخيم مكانة القيادة الإقطاعية وتصوير الشعوب العربية على أنها من أنصار التخلف والتبعية، وصولا إلى إطلاق مسميات الهلوسة والتحشيش وقطعان الجرذان عليه وعلى حركته، وأن التغيير لا يمكن أن يقوم به العقل والإنسان العربي. لكن ما أثبتته معركة الهوية والفكر في التحول من قطبي الجمود والتبعية الى قطبي الممارسة والتغيير خارج الصورة النمطية التي تؤسس لتيار شعبي يحمل المشروع القومي للهوية العربية المتحررة من أدوات الزيف الاستعماري لعقله بمعنى آخر استطاع الإنسان العربي ان يسترد جواز مروره للدخول إلى عصر التحول والتطور.
 
تلك المفاعيل من التحول تعني أساساً ثابتا في بنية الثقافة، التي جرى تدجينها أو محاولة الاستيلاء عليها طيلة النصف قرن الماضي في أنظمة الحكم التي لبست شعارات "الثورة" والنضال ضد الاستعمار وثقافته إلى أن طوع الحاكم تلك الثقافة الى أداة تدور في فلكه الأوطان وما تحتويه. الخروج عن المألوف عند الشعب العربي لا يدهش العقل طالما كان الإيمان بأن هذه الشعوب تمتلك القدرة على قلب كل النظريات والشعارات التي باسمها جرى امتهان وظيفة "الوطن" وساكنه "النسمة" بدل"المواطن" وخلق حالة وثقافة من الاستكانة الوظيفية القادرة على تقديم أشكال الظهور "للزعيم" واختفاء الوطن والمواطن في جيبه الخلفي.
 
ثمة مدخل آخر تزودنا به ثورة الشارع العربي لفهم مسألة التحول من الاستكانة إلى الأخذ بزمام المبادرة، الذي تعتقد بعض النظم أنها بخلاف جارتها. البلل لا يمكن أن ينتقل إلى الرأس، والرطوبة التي تشعر بها قبل المطر لم تنفع معها لا خيمة القذافي ولا فهم بن علي ولا وعي مبارك ضمن منطق رؤية السلطة لا الشعب والوطن إلا من خلال أجهزة القمع التابعة للنظام، لتختفي في لحظات عبارات "الشعب" والمواطنين والأخوة إلى مفردات الكلاب الضالة والغوغائية والتضليل والأجندة الخارجية لمحاولة تأمين بقاء انقياد غالبية "الجماهير" للوجهة التي تفرضها الطبقة الحاكمة على الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لتبلغ الصورة ذروتها في هيمنة السياسي والاقتصادي على الثقافي، وليّ عنق الحقيقة والعقل والتعامل مع الجمهور كقطيع يساق إلى حيث يشاء الراعي.
 
إذا ما عدنا اليوم إلى الواقع العربي فإننا نجده واقعا اكتسب بنيته وفهمه للتحرر من سيطرة وهيمنة أنماط الحكم الاستبدادية بنموذج متوافر بين يديه وأمام ناظريه لشروط الانتقال من الانحطاط والتقهقر عن الذروة التي بلغ إليها فساد السلطة في بعض المجتمعات العربية، واستبدال الرضا الوهمي، وتمكنت منه الشعوب اليوم بقلبها مفاهيم الخلاص المتخيل من استكانة فرضتها وسائل لم تعد تعني إلا إطاحتها جانبا من العقل العربي، وتتجاوز في أهمية فعلها الثوري الحديث عن عن الإصلاح والديمقراطية من داخل مؤسسات هي أساسا تمثل ذروة الفساد والقمع، ليجد الشعب العربي في ثورته اليوم أن أجندته مستقاة من أدوات اعتقد النظام الرسمي العربي أنها تشكل ملاذه الآمن ليصبح ميدان الثورة خاليا من نظرية الأجندة الخارجية التي استوردها النظام العربي لحماية نفسه بها من "كارثة " تحول العقل العربي إلى يقظة الأمل والأخذ بزمام المبادرة بنفسه دون الرجوع إلى وكلاء النظام العربي برجعياته الغربية والأمريكية والإسرائيلية المنافقة بالحديث عن الديمقراطية المزيفة.
 
قد تكون ميادين "الجنون" العربي بلغت ذروتها في إنزال بعض "عقلاء" القصور وبخروج الشعب العربي عن "رشده"الذي رسمه له عقلاء القصور الرئاسية والملكية والأميرية مع بداية النصف الثاني من القرن الماضي، لكن حالة الإنكار المستمر "لعدوى" و"تقليد" الثورة لم تدخل بعد قاموس "العقلاء" المصرين إن فعل الثورة ما هو إلا مؤامرة تحاك في واشنطن وتل أبيب غير مدركين أن التحرك الشعبي مقامه الأساسي قائم على تحول القصور الملكية والرئاسية لحدائق خلفية لأمريكا وإسرائيل لتنفيذ أجنداتها المرتبطة مع العواصم الغربية، وما تفضحه الثورات اليوم من هشاشة تلك النظم وما كشفه ويكيليكس، وقبلها الانهيار والتردي العربي عن مقاومة المشروع الصهيوني في فلسطين ومشهد الفرجة العربي على تدمير لبنان في حرب تموز 2006 وحرق غزة 2009، هي شاخصات مرور لطرق التحول العربي لإعادة الاعتبار لمفهوم الوطن والمواطن العربي الذي اختزله الحاكم العربي في سجلاته الرسمية وأطلق عليه بالإحصاء "نسمة "ووضعه هو والوطن في جيبه الخلفي.

التعليقات