08/03/2011 - 10:37

فوضانا الخلاقة.. حقا!../ نهلة الشهال

ولأن الثورات في المنطقة العربية قد كشفت عن غياب المستحيل، يتناول نقاش الهيئات المنظمة احتمالا ليس خيالياً بأن تتقاطع أسباب وعوامل عدة تحول دون قدرة إسرائيل على منع الأسطول من الوصول إلى غزة. أي فرحة تلك ستكون. وإن لم يحدث، فالمناضلون الدوليون يرون في مبادرتهم إلى الأسطول شكلاً هاماً من بين أشكال مساهمتهم في... تغيير العالم. ما الثورات إن لم تكن هذا كله؟

فوضانا الخلاقة.. حقا!../ نهلة الشهال

"إن عدتم عدنا"، قالها الشبان في قلب القصبة، الحي القديم من العاصمة تونس، فيما كانوا يلملمون متاعهم ويطوون ما افترشوه على الرصيف طوال شهر بعد سقوط بن علي، استعدادا منهم لإخلاء ساحة الاعتصام تلك، والعودة لقراهم المعدمة في ولايات الداخل التونسي، كبوزيد والقصرين، اللتين أشعلتا فتيل الثورة. لقد حققوا ما أرادوه من الاعتصام: إسقاط حكومة السيد محمد الغنوشي، ليس لأنه يفتقد للدماثة أو للكفاءة، بل لأنه يمثل رمزياً استمرارية النظام السابق. وقد نالوا استقالة الرجل، وقراراً بالتحضير لإجراء انتخابات مجلس تأسيسي يعيد صوغ الدستور والقوانين الانتخابية، ويشرف على إجراء الانتخابات النيابية، رافضين فكرة الشروع بالانتخابات الرئاسية أولاً، لأنها لا تعبر عن عمق التغيير الواقع، فهي محاولة متعجلة لتأطير وضبط الأمور.
وللمطالبة المشتركة بين كل الانتفاضات الجارية، من أقصى المنطقة إلى أقصاها، ومن دون استثناء، بمجالس تأسيسية دلالة كبرى. فهي تعلن عن مقدار الخراب الذي لحق بالمؤسسات الدولتية والمجتمعية على السواء، وتقر بأن الأمر لم يعد يحل بغير إعادة "التأسيس"، أي تجديد العقد الاجتماعي بواسطة أوسع قدر ممكن من المشاركة العامة والجديدة، عبر الصراع السياسي حول خيارات محددة، ووضع الآليات والمؤسسات المتفقة مع تلك الخيارات. وبهذا المعنى فالمجلس التأسيسي سيرورة عامة قدر ما هو هيئة دستورية عليا.

سيقول الحكماء إن وراء الأكمة ما وراءها، وليست الصورة على هذا القدر من السذاجة. ولكنهم يتناسون أن لشكل الصراع الدائر أهميته، حيث هو يجسد إدراك الناس لأنفسهم، لكونهم يمتلكون خيارات وفعلا مقررا، حتى لو شجعتهم من وراء الأكمة قوى منظمة، أو خطط للاستفادة منهم "مجلس حماية الثورة" المتشكل، وفق تعبير منتقديه، بقرار ذاتي.

وفي قفصة التي تلفح أغبرة الفوسفات هواءها والوجوه، ويرتبط اسمها بنضالات طويلة وعنيفة، بادر الناس للتمرد مطالبين بتلمس تحسين أوضاعهم، متعجلين علامات أثر الثورة عليهم. كم هم محقون في نزوعهم هذا إلى نفض ما انقلبوا عليه، وفي المبادرة والتطلب. وفي مناطق أخرى مشابهة في فقرها الشديد، تشكلت لجان لإغاثة النازحين من ليبيا لأن الجميع يريد المشاركة في الحدث. هي روح جديدة، وثابة، يقظة، فضولية ومتطلبة، فهل تضيق بها صدور من يفترضون بأنفسهم المسؤولية؟

وفي مصر، وقف أبناء الثورة بالمرصاد لحكومة "الاستمرارية"، وفرضوا استقالتها ورشحوا رئيساً جديدا يناسبهم. وهم يقظون إلى حد التوجه فوراً إلى مقار مباحث أمن الدولة (التي كانوا منذ شهرين لا يجرؤون على المرور من الرصيف المقابل لها)، وتطويقها واقتحامها أحياناً، حماية للمستندات القيمة التي تقبع هناك، والمتعلقة بالقمع والاعتباط والفساد، حيث سعى ضباط من ذلك الجهاز المرعب (سابقاً!) إلى إتلافها إخفاءً للجرائم القديمة، وتضييعا ربما لمسؤولية ما يمكن أن يجري لاحقاً. وهم يطالبون ببساطة بحل هذا الجهاز، وهو ما يبدو على وشك التحقق. والمهم في هذه الواقعة ثلاثة عناصر: التيقظ المستمر لأعداد غفيرة من الناس، والتجرؤ الكبير لهم على رموز سلطة تكاد تكون مقدسة، ثم الاتجاه إلى تنظيم أنفسهم في لجان شعبية، يدوخ تعددها وتنوعها الرأس، ومنها ما تشكل خصيصاً لحماية الوثائق والملفات.

هو التلذذ بالحرية، وباستعادة المبادرة، وكأن الناس لا يرتوي عطشها منهما.
حتى إن الثورات العربية الجارية قد أشعلت الحماسة في صفوف المناضلين الدوليين العاملين من أجل انطلاق أسطول الحرية الثاني إلى غزة. وإذ تقرر أن موعد الانطلاق سيكون في النصف الثاني من شهر أيار/ مايو القادم، فما يُناقش اليوم، من بين أشياء أخرى، هو كيفية الوصل مع تلك الثورات، عن طريق دعوة ممثلين عنها إلى الاشتراك في هذه المبادرة وركوب الاسطول، بل وأحيانا بالتفكير في زيارة موانئ في مصر وتونس.

كما يناقش المناضلون الدوليون من أجل فلسطين تأثير انقلاب توازن القوى في المنطقة، واستمرار هبوب رياح التحرر عليها، وتأثيرها على فلسطين نفسها. وهم يعتقدون أنه لا بد من أن يكون لذلك الواقع الجديد نتائج إيجابية، رغم أنه تبين ذلك بشكل ملموس ليس بديهياً. بل ثمة من يفترض أن انشغال العالم العربي بنفسه قد يطلق يد إسرائيل في فلسطين أكثر مما هي مطلقة، ويسمح لها بمزيد من البطش، لا سيما أن مخططاتها لشن هجمات حربية على مواقع معادية لها، سواء في إيران أو سوريا أو لبنان، كما كانت تسرِّب، ساعية لنيل الرضا الأميركي على مثل هذه الأفعال، قد فوتتها تلك الثورات. فليست واشنطن بوارد مثل هذا الأذن اليوم، وهي فعلت أقصى ما يمكنها فعله من أجل إسرائيل بالتفرد بوضع فيتو على تصويت مجلس الأمن، ضد إدانة استمرارها بتوسيع الاستيطان، وقد كان ذلك بذاته مبالغاً به كثيراً، بدليل التفرد نفسه. ويخطئ من يظن أن إسرائيل تقرر وحدها مثل هذه الخطوات الكبرى، أو أنها تفرض على واشنطن مزاجها. وحدودها أن تلجأ إلى بعض الأعمال الإرهابية، كالاغتيالات أو كالتخريب في بلدان عربية، ما لم تكف عنه على أية حال...

وهنا أيضاً، فلا بد من تسجيل كيفية انطلاق مبادرة الأسطول في الأصل على يد بضعة "مجانين"، كانوا من العناد بحيث تمكنوا، بعد محاولات متكررة شديدة التواضع، من توسيع دائرة المقتنعين بجدوى ما يقومون به، وكانت إسرائيل من الخراقة بحيث ارتكبت جريمتها في العام الفائت، فساهمت، من حيث لا تدري ولا تشاء، في تصليب عودهم، وفي توسيع المتحمسين لهم، وفي حملهم على أخذ أنفسهم على محمل الجد والسعي لتنظيم أفضل لقواهم. وها النتيجة المحصَّلة بفضل المساهمة الشعبية وليس أي شيء آخر: خمسة عشر سفينة على الأقل، تخفق على صواريها أعلام من أرجاء العالم، منها سفينة ركاب واسعة، ستحمل مناضلين من جنسيات مختلفة ومن القارات كافة... كأنها سفينة نوح!

ولأن الثورات في المنطقة العربية قد كشفت عن غياب المستحيل، يتناول نقاش الهيئات المنظمة احتمالا ليس خيالياً بأن تتقاطع أسباب وعوامل عدة تحول دون قدرة إسرائيل على منع الأسطول من الوصول إلى غزة. أي فرحة تلك ستكون. وإن لم يحدث، فالمناضلون الدوليون يرون في مبادرتهم إلى الأسطول شكلاً هاماً من بين أشكال مساهمتهم في... تغيير العالم.
ما الثورات إن لم تكن هذا كله؟
"السفير"
 

التعليقات