16/03/2011 - 11:30

فلسطين بين القديم والجديد../ علي جرادات

بمظاهر التبعية واستلاب الإرادة العربية، وأزمة الدولة القطرية ومظاهر تفتتها، وغياب الحد الأدنى من الديمقراطية والحريات وحفظ الكرامة والعدالة والتنمية، والعجز عن تلبية استحقاقات الصراع العربي الإسرائيلي، وجوهره القضية الفلسطينية، ناهيك عن احتلال العراق وتدميره، ظلت التناقضات داخل النظم الرسمية العربية، على الاختلاف النسبي بين مكوناتها القُطرية، تتأجج وتعتمل لعقود حتى انفجرت. ما يؤكد من جديد حقيقة أن القمع لا يمكنه احتباس الحريات للأبد

فلسطين بين القديم والجديد../ علي جرادات
   بمظاهر التبعية واستلاب الإرادة العربية، وأزمة الدولة القطرية ومظاهر تفتتها، وغياب الحد الأدنى من الديمقراطية والحريات وحفظ الكرامة والعدالة والتنمية، والعجز عن تلبية استحقاقات الصراع العربي الإسرائيلي، وجوهره القضية الفلسطينية، ناهيك عن احتلال العراق وتدميره، ظلت التناقضات داخل النظم الرسمية العربية، على الاختلاف النسبي بين مكوناتها القُطرية، تتأجج وتعتمل لعقود حتى انفجرت. ما يؤكد من جديد حقيقة أن القمع لا يمكنه احتباس الحريات للأبد.
 
   والشعوب العربية ككل الشعوب، وإن صبرت طويلاً، هبت في نهاية المطاف للدفاع عن قضاياها القومية والوطنية والديمقراطية، وتخليص إرادتها من تزوير وصاية الأنظمة وضيق مصالحها وقمعها. حال هذه الأنظمة كحال أي نظام سياسي شاخ وبات قديماً، ولا يستمر إلا بكبح التغيير وقمع قواه الجديدة الناهضة، أو حشرها فيما اعتاده من قوالب فكرية وسياسية وتنظيمية، أصبح استيداعها في متحف للعاديات ضرورة موضوعية، بما يكَذِّبُ الظن أن "للتاريخ نهاية" لا يعرفها، بل برهنت سيرورته على أن لا قديم دون جديد، ولا جديد دون قديم، ذلك أن كلاً منهما ينطوي على الآخر، ولا يكون إلا نسبة إليه. في هذا السياق، جاء الحراك الشعبي العربي بجديد ظل يغلي ضد قديمه الذي قمعه، فزاده قوة، ليكون ميلاده مدوياً.
 
   وهذا ما يوجب على الحركة الوطنية الفلسطينية، ونخبها القيادية بخاصة، التعلم من دروس الجديد العربي، والتحاور مع جديدها الناشئ في أحشائها، خارج صيغة التعامل مع كل جديد ناهض، بوعي قديمٍ يفرض ذاته على الواقع، كأنه الواقع، فيتخلف عن حركة شعوب كسرت حاجز الخوف، وأمسكت بزمام المبادرة لاستعادة سيادتها، باعتبارها مصدر كل سلطة وتشريع ومرجعهما.
 
   ففي انتفاضات الشعوب العربية برهان آخر على أن الزوال هو حصاد كل قديم يعاند متطلبات التجديد الموضوعية. فالشعوب هي صانع تاريخها، والانتقال به مِن طور إلى آخر، حتى، وإن جاء ملتويا متعرجاً، ما يقتضي عدم  الخلط، بوعي أو عن جهالة، بين دور الشعوب، القاطرة الفعلية للتغيير، وبين دور الطلائع السياسية المُحرضة والمُؤطِّرة والمُعبأة والمُنظِّمة والقائدة لهذا التغيير. بل إن هذه الطلائع ستذوي وتتلاشي برنامجاً ودوراً ووجوداً، ويحل محلها جديد تحمله في احشائها، إن هي تبقرطت وتثاقلت، ووقفت في منتصف طريق متطلبات تغيير موضوعي تنشده شعوبها.
 
   والشعب الفلسطيني هنا ليس استثناء، ولا هو خارج هذا القانون. وفي مسيرته ما يبرهن على ذلك. ما يفرض على النخب القيادية للحركة الوطنية الفلسطينية، على اختلاف مشاربها الفكرية والسياسية، الرسمي منها والشعبي، التقاط دروس المستجدات الشعبية العربية، وتمثل دلالاتها وتداعياتها وانعكاساتها على القضية الوطنية الفلسطينية، بإعتبارها نواة مضمرة في التحرك الشعبي العربي الهادر، الذي أقلق الإسرائيليين وأفزعهم، تعبيراً عن الصدام الموضوعي بين مشروعهم الاحتلالي، وبين هذا الحدث الشعبي العربي التاريخي، الذي سيحرك من جديد، تقدم الأمر أم تأخر، المخزون التاريخي والذاكرة الجمعية العربية تجاه الغزوة الصهيونية، وموقفها منها. ما يعني، أن نتائج هذا الحدث، ستكون معززة لتصاعد حالة جماهيرية عربية فاعلة، تحتضن الكفاح الوطني للشعب الفلسطيني وتدعمه.
 
   وهذا ما يفرض على النخب القيادية للحركة الوطنية الفلسطينية حراكا في الوعي والممارسة. فـ"تعاسة في السياسة أن لا يستجيب الذهن إلى تحولات الواقع". فما بالكم إزاء تحول كبير في عصر سريع عصي على التحكم، أشعلت شراراته حركات شبابية عربية، (تزخر فلسطين بمثيلاتها)، امتلكت وسائل عصرها بإبداع وذكاء واقتدار، وجاءت ثمرة لتاريخ شعوبها، وغير منعزلة عنه. إذ بمعزل عن طريقة تمثلها له وزاوية نظرها إليه، فإنها قد هضمته، وتمثلت الإيجابي من قيمه، وأضافت إليه أسلوبها ووعيها الخاصين؟؟!!
 
   من نافلة القول التأكيد أن لفلسطين خصوصية احتلالها، وأن الشعب الفلسطيني ما زال يعيش مرحلة تحرر وطني. وبالتالي فإن أي تغيير ديموقراطي داخلي يجب أن يصب في بوتقة تعزيز النضال ضد الاحتلال وانتزاع الحقوق الوطنية الثابتة في العودة والحرية والاستقلال. لكن هذا لا ينفي حقيقة أن إطلاق العنان للخيار الديمقراطي الداخلي، هو شرط لازم لازب، لتعزيز النضال ضد الاحتلال، وشرط لا مفر منه لمعالجة التناقضات الداخلية، وصب جهود الشعب موحداً في الوطن والشتات، عبر التوحد في السياسة والتنظيم الوطني ومؤسساته التمثيلية الجامعة  في مواجهة الاحتلال. هنا يثور سؤال: بما نبدأ؟؟
 
   إن الشعب الفلسطيني المثقل باستباحات الاحتلال وتشوهات الانقسام الداخلي المدمر، الذي أفضى إلى تعدد أجندات تجمعاته، أحوج ما يكون إلى إعادة نظمه ثانية في إستراتيجية سياسية كفاحية وطنية وديمقراطية موحدة، تشكل عقدا سياسيا جامعا تلتزم به كل قواه السياسية والاجتماعية في الوطن والشتات، كشعب له أهداف مشتركة ومصير مشترك. وهذا ما لا يفي به غير بدء البحث الفوري في كيفية تفعيل الشق المتعلق بمنظمة التحرير الفلسطينية في إعلان القاهرة، أي في كيفية تذليل مصاعب إجراء انتخابات حرة ديمقراطية ونزيهة، وعلى أساس التمثيل النسبي الكامل، لمجلس وطني جديد، في الوطن، وحيثما أمكن في الشتات، والتوافق حيث تعذر، كمدخل لإعادة بناء وتوحيد وتجديد وتثوير منظمة التحرير الفلسطينية. وإناطة البت في باقي ملفات الشأن الفلسطيني خارجيا وداخليا، بهذا المجلس المنتخب دون وصاية، بما في ذلك البت في شأن السلطة الفلسطينية وتعاقد أوسلو السياسي الذي قامت عليه، ودورها ووظيفتها وانقساماتها وانتخاباتها، وعلاقتها بمنظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها. فانتخاب مجلس وطني جديد هو الحلقة المركزية التي لا يمكن الإمساك بباقي حلقات السلسلة الفلسطينية الداخلية دون الإمساك بها. وفي النهوض الشعبي العربي ما يساعد على إنجاز هذه الحلقة. فالأنظمة الرسمية العربية باتت "مضبوعة" من شعوبها، ولعل حالها أقرب إلى ما كانت عليه بعد هزيمة عام 1967، التي لعبت دوراً في "غرش" هذه الأنظمة عن انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، بصرف النظر عن كيفية تعاملها معها بعد اشتداد ساعدها.
 
   هذا لكل من يشاء تلقف فرصة النهوض الشعبي العربي، الذي تجاوز مناخات أوسلو التي ضخت اليأس والالتباس وفقدان الأمل في الوعي الفلسطيني، وعمقها الانقسام الداخلي المدمر، لكنها ظلت عاجزة عن المساس بجوهر الهوية الوطنية الفلسطينية التحررية وأهدافها العادلة، يغذي هذا الجوهر تراكمات المسيرة النضالية المديدة، وتحفزه جمرات التضحية التي لم تنطفئ، وتحتضنه التيارات الشعبية العريضة القابلة للاشتعال، خاصة بعد الحراك الشعبي العربي الهادر. ما يقتضي الابتعاد عن الرؤى الفئوية الذاتية، التي تغذيها مصالح ضيقة، وتنفخ فيها تدخلات خارجية، وأخطرها الأمريكية، لا بفعل ثقلها في السياسة الدولية ومؤسساتها فقط، بل أيضاً لثبوت عدائها للشعب الفلسطيني وحقوقه ونضاله الدفاعي المشروع، بفعل تحالفها الإستراتيجي مع إسرائيل كقوة احتلال تمتهن الحروب وترفض التسويات السياسية.

التعليقات