06/05/2011 - 14:15

من في حقيقة الأمر "ينكر" عبر المحرقة وحقائقها؟../ حنين زعبي

بالتالي من يريد أن يهرب من العبر التاريخية للمحرقة، وأهمها ربما " لا تقتل"، أو " لا تستعلي على الآخر"، أو "لا تكن عنصريا"، هي إسرائيل نفسها، وليس غيرها. والخطاب الإسرائيلي للمحرقة لا ينكر "عبر" المحرقة فقط، بل ينكر حتى حقائقها الأساسية. فاليهود لم يكونوا وحدهم المستهدفين من قبل النظام النازي، لقد قتل الملايين –حسب بعض الإحصائيات خمس ملايين، أي حوالي 50% من ضحايا المحرقة- من أسرى الحرب من الاتحاد السوفييتي، والعديد من مواطني الاتحاد السوفياتي والبولنديين، والمثليين والمعاقين

من في حقيقة الأمر
أثار قرار وزير المعارف بفرض تدريس المحرقة على المدارس العربية، ردود فعل واسعة وغاضبة، وفي محلها. فلا يمكن قبول فرض الاعتراف بمآسي الآخر، وإنكار مأساة شعبك، بل وفرض قانون يعاقب من يحيي ذكرى مأساتك.
 
لكن هذا الغضب والرفض يبسطان المشكلة، أو الإشكالية، ويبقيانها في باب المقابلة بين المحرقة والنكبة، ولا نقصد بالمقابلة المساواة أو حتى المقارنة من حيث المأساة الإنسانية، بل نقصد بالمقابلة ما هو فعلا قابل للمقابلة، وهو الوزن النوعي للحدث التاريخي في تشكيل هوية الجماعة التي نتحدث عنها، ومن هذا الباب ربما تكون النكبة أهم وأكثر حسما من المحرقة، من ناحية وزنها في تشكيل هوية الفلسطيني وفي تحديد مسار تاريخه.
 
لكن تبسيط الإشكالية وحصر التعامل مع المحرقة من باب الاعتراف أو عدم الاعتراف بها، أو من باب التعاطي أو عدم التعاطي معها، كمأساة إنسانية، هو ليس السؤال الصعب، بل هو سؤال أخلاقي يمكن، بل وعلينا، حسمه بسهولة. أيضا تبسيط الإشكالية وحصر التعامل مع المحرقة بصفتها جزءا من تاريخ الآخر، نرفض التعاطي معه، في الوقت الذي نمنع فيه وبالقوة من التعاطي مع تاريخنا نحن، هو أيضا تبسيط للقضية، لأن القضية الأساسية هنا، هي كيف يتعاطى الآخر مع تاريخه هو، وليس مع تاريخنا نحن.  
 
والقضية التي علينا جميعنا التعامل معها بجدية، بما في ذلك، وربما على رأسهم، المعلمون وموظفو وزارة التربية، هو نقد التعامل الإسرائيلي الأيديولوجي الأداتي الضيق مع المحرقة، دون التعامل مع ما يسمى "عبر" المحرقة، وجانبها الإنساني الكوني.
 
ومن يهرب أو يخاف أو يمتنع عن هذا التعاطي القيمي الكوني مع المحرقة هو بالذات الجانب الإسرائيلي الرسمي والشعبي، وليس الجانب الفلسطيني داخل إسرائيل.
 
ومن يعمق النظرة الأداتية لأيديولوجية "للمحرقة" ويستعملها كوسيلة لبناء هوية "يهودية" مهددة، مستهدفة، مطاردة، ملاحقة، خائفة، ومبتورة عن محيطها، بل وعدائية له، هو الجانب الإسرائيلي، وما تعميق تدريس المحرقة إلا إمعان في هذا الاستخدام.
 
تقرير مراقب الدولة بتوصياته السبع أو الثماني، وقرار وزير المعارف لا يدخل من باب إعطاء قيمة لمأساة إنسانية، بل من باب تعميق هوية أيديولوجية ما على أعضاء "القبيلة"، وحتى على من هم ليسوا أعضاءها.    
 
هذا الاستخدام الأيديولوجي - الأداتي لمأساة إنسانية، يقزم المأساة، وينزلها من مستواها الكوني العام، إلى الحيز القبلي المتعصب الذي يحول "الضحية" من حالة متبدلة بتبدل علاقات القوة، إلى صفة ثابتة وعضوية، أي يحول "الضحية" من حالة لصفة، مما يسهل معها تسويغ عداء وجرائم "الضحية" لمحيطها وللسكان الأصليين، كما ويسوغ لثقافة القوة. وتختزل المحرقة بذلك من مأساة إنسانية، إلى رأسمال سياسي. وتتحول عبرة "لا تقتل"، إلى "لا تقتل اليهود واليهود فقط"، ومن ثم " مهما فعلت فأنت ولا شك تريد قتل اليهود".      
  
بالتالي من يريد أن يهرب من العبر التاريخية للمحرقة، وأهمها ربما " لا تقتل"، أو " لا تستعلي على الآخر"، أو "لا تكن عنصريا"، هي إسرائيل نفسها، وليس غيرها. والخطاب الإسرائيلي للمحرقة لا ينكر "عبر" المحرقة فقط، بل ينكر حتى حقائقها الأساسية. فاليهود لم يكونوا وحدهم المستهدفين من قبل النظام النازي، لقد قتل الملايين –حسب بعض الإحصائيات خمس ملايين، أي حوالي 50% من ضحايا المحرقة- من أسرى الحرب من الاتحاد السوفييتي، والعديد من مواطني الاتحاد السوفياتي والبولنديين، والمثليين والمعاقين.  
 
ولعملية بتر المحرقة من قيمتها الأخلاقية إلى مكانتها كمركب منغلق واستعدائي في "هوية قومية" ما، والتي تشترك بها جميع مؤسسات المجتمع الإسرائيلي، ٌأبعاد نفسية وذهنية عميقة وخطيرة، فهي التي تعيد بناء جدران المعتقلات الذهنية والنفسية حول الإسرائيليين، وتبني عمى سياسيا وتحجرا أخلاقيا، وتؤسس لما تريد نفيه، من عنصرية واستعلاء قومي واستكبار.   
 
كما أن تشجيع أيديولوجيا اليهودي المطارد والمهدد هي الوصفة الأسهل والأنجع لعدم تطوير تفكير ناقد ومستقل تجاه استعمال القوة في إسرائيل.
 
من جهة ثانية، يبدو غريبا، تطرق تقرير مراقب الدولة إلى الجانب القيمي، من محاربة للعنصرية، والاعتراف بالآخر، فقط في سياق تعليم المحرقة في المدارس العربية! فكأن اليهودي لا يحتاج لمحاربة العنصرية وللاعتراف بالآخر، فقط العربي عليه أن يربط بين المحرقة وبين محاربة العنصرية – عنصريته هو طبعا- والاعتراف بالآخر!  
 
ولا يتورع مراقب الدولة عن تقديم توصيات تفصيلية، لا تتوقف فقط على تدريس المحرقة، بل تتعدى ذلك إلى زيارة بولندا، زيارة المتاحف المتعلقة، وزيارة "ياد فشيم"! الأمر الذي يحول التوصيات المتعلقة بالمحرقة لصيغة ما من صياغات قوانين الولاء وسياسات الولاء، فلا يوجد أي رابط بين هذه التوصيات ودلالات المحرقة بصيغتها الإسرائيلية، وبين المأساة الإنسانية، ومراقب الدولة ووزير المعارف، ومن شابههما من موظفي المعارف العرب، يبغون فرض صيغة من صيغ الولاء للصهيونية، ليس أكثر.
 
وهذا التعامل مع جهاز التعليم العربي، يعزز توجهات النفاق من جهة، والخوف من جهة أخرى، الأمر الكافي لهدم جهاز التعليم العربي تماما، على رؤوس بناتنا وأولادنا.
 
بالتالي، المطالبة عليها أن تكون واضحة بإعادة النظر في كيفية التعامل مع المحرقة، ورفعه من مستوى التعامل السياسي إلى مستوى التعامل الأخلاقي. ثانيا، الاعتراف بالنكبة، ليس من باب المقابلة المأساوية، بل من باب المقابلة التاريخية، كجزء أساسي ومكون من الهوية والتاريخ الفلسطينيين، وتعميم تدريس النكبة ليس على المدارس العربية فقط، بل ربما أولا على المدارس اليهودية، لأن النكبة ما زالت مخططا مستمرا نعيه نحن الفلسطينيين من خلال مصادرة أرضنا، ولغتنا وهويتنا وحقوقنا، فلا حاجة لوزارة المعارف الإسرائيلية لكي تذكرنا بالذي لم يمض.  

التعليقات