05/06/2011 - 11:11

عبرنة القدس وعروبة الثورات../ رنا بشارة

لقد تمكن الإسرائيليون من استخدام اللعبة الديمقراطية واستحضار الرأي العام الإسرائيلي ببراعة تامة من أجل تحقيق أهدافهم السياسية عامة، وفي القدس خاصة، في حين كان الرأي العام العربي مغيبا عن قضايا الأمة المصيرية بفعل قمع العديد من الأنظمة الرسمية العربية لشعوبها وحرمانها من حقها في العيش الكريم وحرية التعبير عن آرائها

عبرنة القدس وعروبة الثورات../ رنا بشارة
لم تكن قمة سرت التي انعقدت في آذار العام الماضي تحت شعار "نداء صمود القدس" وأقرت 500  مليون دولار إضافيا لصندوق "الأقصى"، لتتنبأ برياح التغيرات التاريخية التي ستهب على المنطقة وتطيح بأنظمة استبدادية دام حكمها التسلطي لثلاثة أو أربعة عقود متتالية، لم يجر خلالها دورة انتخابية واحدة.

إن عقودا من استعباد الشعوب لكفيلة بأن تفجر قهرها، وتحرر أرواحها من قبضة الرعب وتطلق العنان لحناجرها الأسيرة لتهتف من أجل الحرية، وإن كانت الطريق أمام إنجاز التغيير المنشود لا تبدو مفروشة بـ"ياسمين" الثورة التونسية وستعترضها مطبات جدية ليست بقليلة.

هناك، على الجانب الآخر، وفي "واحة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" -كما يسوقونها للعالم- أجرى الإسرائيليون خلال العقود الأربعة الماضية من حكم "عميد الحكام العرب" إحدى عشرة دورة انتخابية، توالت خلالها على الحكم أحزاب من كافة أطياف اللون الحزبي الأيديولوجي، من يمين ويسار ومن يتوسطهما، حسب التبويب السياسي الإسرائيلي، يجمع ما بينها أكثر بكثير مما يفرقها.

ومن أجل تحقيق حلم آباء وأجداد الصهيونية بإقامة القدس اليهودية الموحدة عاصمة أبدية لإسرائيل، كان لا بد أن تضع تلك الأحزاب جميعا دون استثناء تهويد القدس على سلم أولوياتها، وأن تتخذ من كل يوم يمر قمة للقدس ولضخ ملايين الدولارات الأمريكية من أجل ذلك.

فالتهويد جرى بتسلسل منتظم ووفق إيقاع مدروس، واعتمد آلية توزيع للأدوار بين الأحزاب الإسرائيلية المختلفة التي تعاقبت على الحكم. وإن اختلفت قواعد اللعبة، إلا أن الغاية كانت واحدة وجامعة بينها. فما أن يفوز اليمين ويشكل حكومته حتى يباشر أنشطته الاستيطانية جهرا من حيث انتهى سابقوه. عندها، يأتي دور "اليسار" للتدخل والاحتجاج واستثمار "تطرف" اليمين من أجل تحقيق الفوز في الانتخابات التالية. فيخرج اليساريون إلى الشارع بشعاراتهم التي تدعو الى التعايش مع العرب، ويحثون العرب والفلسطينيين على مساندتهم في مواجهة خطر تفشي عنصرية اليمين.

فهي الفرصة لاستعادة اليسار لمكانته السياسية والحزبية المتآكلة أمام الرأي العام الإسرائيلي المتشدد، الذي لم يعد قادرا على التمييز بين يمين ويسار من شدة تشابهما أيديولوجيا. وهي اللحظة المؤاتية لتذكير العالم بأن لإسرائيل وجها آخرا أيضا، ديمقراطيا، جميلا.

وما أن يحالف "اليسار" الحظ بالفوز في دورة انتخابية جديدة لاحقة، حتى يباشر دوره باستكمال مسيرة التهويد ولكن على طريقته هو، الهادئة، والبعيدة عن استفزاز مشاعر العرب والمسلمين، مستعينا بشعور ارتياح المجتمع الدولي لفوزه. فالأخير طالما فضل "الاعتدال" على "التطرف".

أما دور اليمين خلال فترة حكم "اليسار" فيكون منصبا على تعبئة وتحريض الرأي العام الاسرائيلي ضد "التنازلات الأليمة" التي يقدمها اليسار للفلسطينيين. فيبدو اليسار وكأنه ضحية اليمين، مع أنه في حقيقة الأمر لا يختلف عنه عندما يتعلق الأمر بقضايا الاجماع القومي اليهودي إلا شكليا، وخاصة بموقفه الأيديولوجي من القدس.

لقد تمكن اليسار الإسرائيلي من استدراج العديد من العرب والفلسطينيين ليصدقوا كذبة وجود شريك إسرائيلي "معتدل" يمكن تطوير حوار و"صناعة" مبادرات سلام مشتركة معه في قضايا الحل النهائي الخلافية كالقدس وحق عودة اللاجئين. وكان على بعض العرب والفلسطينيين أن يساندوا الشريك الإسرائيلي وأن يعملوا معه بجهد على إقناع اليمين بأن النموذج التعايشي المطروح يمكن البناء عليه وتطويره.

أما الخلافات السياسية التي كانت تثار في الساحة الحزبية الاسرائيلية بين حين وآخر قبل هلاك اليسار كليا، فما هي إلا ذر للرماد في العيون، وجزء لا يتجزأ من تكتيكات اللعبة الديمقراطية الهادفة الى كسب الوقت. فيكون الخيار إما باللجوء إلى حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة أو تشكيل ائتلاف حزبي عريض يصون المصالح القومية اليهودية العليا من الانزلاق نحو مواقف سياسية من شأنها أن تمس الإجماع القومي اليهودي.

وفق هذه المنهجية قادت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة عملية تهويد القدس على مدار العقود الماضية. ووفق تلك الرؤية، كانت مسيرة التهويد تجري أيضا بالتوازي من داخل مبنى بلدية القدس.

لقد تمكن الإسرائيليون من استخدام اللعبة الديمقراطية واستحضار الرأي العام الإسرائيلي ببراعة تامة من أجل تحقيق أهدافهم السياسية عامة، وفي القدس خاصة، في حين كان الرأي العام العربي مغيبا عن قضايا الأمة المصيرية بفعل قمع العديد من الأنظمة الرسمية العربية لشعوبها وحرمانها من حقها في العيش الكريم وحرية التعبير عن آرائها.

لقد تنكر العديد من الحكام العرب الذين انشغلوا بالحفاظ على السلطة والجاه والمال على مدار العقود الماضية لأبسط حقوق شعوبهم الداخلية، ظنا منهم أن الشعوب باستطاعتها تحمل وضع كهذا إلى أبد الآبدين.

كما ودعم الغرب المنخرط في التنظير لحقوق الإنسان في بلدانهم سياسات تلك الأنظمة، وتغاضوا عن انتهاكاتها بحق شعوبها واستدرجوا القادة العرب نحو الانشغال بكل صغيرة وكبيرة تؤرق نوم الإسرائيليين.

قبل بضعة أيام حلت الذكرى الرابعة والأربعين لاحتلال الشطر الشرقي من القدس. لم يكن مفاجئا أو صادما أن يختار المجلس الوزاري الاسرائيلي عقد جلسته الأسبوعية في هذا اليوم داخل أسوار البلدة القديمة، وأن يعلن نتنياهو- الذي عاد مشحونا بحماس تصفيق أعضاء الكونغرس لخطابه في واشنطن- من هناك عن تخصيص مبلغ 100 مليون دولار لاستكمال تهويد القدس.

وفق التقويم السياسي العبري إنه "يوم القدس"، وعند الفلسطينيين فهي ذكرى النكسة المشؤومة عندما احتل الإسرائيليون ما تبقى من الأراضي العربية عام 67، والتي تشمل الشطر الشرقي من القدس... ذكرى لا ندري- حتى كتابة هذه السطور- كيف سيكون زخم إحيائها فلسطينيا وعربيا، ولكن المؤشرات السياسية المحلية والإقليمية لا تبدو مبشرة ولا تدعو لرفع سقف التوقعات كثيرا.

خلال عقود من حكم تسلطي لم يبادر يوما أحد من القادة العرب، الذين تمكنوا بين حين وآخر من إخراج عشرات، لا بل مئات الألوف من المواطنين الى الشوارع لتجديد البيعة لهم عندما تهددت الأخطار عروشهم، إلى حض شعوبهم على الخروج بمسيرات سلمية احتجاجا على التهويد الجاري في القدس، قلب عروبتهم كما يدعون، لتأتي المبادرة فارسية على لسان الإمام الخميني في العام 1979، عندما أعلن عن الجمعة الأخيرة في شهر رمضان من كل عام يوما عالميا للقدس ودعا العرب والمسلمين للخروج بمسيرات شعبية في هذا اليوم. أما الشعوب العربية فكانت احتجاجاتها بدافع من شعور انتمائها القومي العربي وبمحض إرادتها، دون واعز من أحد.

أصبحت الدعوة الإيرانية لإحياء "يوم القدس العالمي" تلقى تجاوبا ملحوظا في عدد من البلدان العربية والإسلامية خلال الأعوام الأخيرة. ورغم أهمية المبادرة إلا أنها تعتبر ذات بعد ديني صرف، بينما حملة التهويد والعبرنة الجنونية التي يقودها الإسرائيليون لا تستهدف "أقصى" القدس أو "قيامتها" ومقدساتها فقط، فحسب، وإنما كل حجر تاريخي فيها، وكل اسم عربي يعلو فوق شوارعها وبواباتها وأحيائها وأزقتها، وكل كتاب يحكي قصة تراثها العربي الإسلامي، وكل فلسطيني مقدسي بقي متشبثا بها.

هناك من العرب من خشي على مدار الأعوام الماضية خطر امتداد النفوذ الإيراني الذي يتهدد أمن إسرائيل واستقرار المنطقة، وآخرون ممن راهنوا على التحالف مع إيران حفاظا على مصالح إما قطرية أو طائفية أو ذاتية ضيقة. فكانت نتيجة الاجتهادين نشوء حالة غير مسبوقة من الفراغ السياسي في المنطقة العربية تقاطع مع حالة الإحباط التي تمر بها الأمة والناتجة عن انسداد الأفق السياسي وممارسات العديد من أنظمة الحكم من استبداد وفساد وقمع للحريات، مما قاد إلى اندلاع ثورات تحرير الذات العربية من التسلط والذل والترهيب نحو الإصلاح والتغيير.

وقد بدأت ثمار أولية لهذه الثورات- رغم ما تمر به عملية التحول الديمقراطي من مخاض عسير- الإلقاء بظلالها المشرقة على القضية الفلسطينية،... قضية العرب الأولى. فخرج الشباب الفلسطيني إلى الشارع مطالبين بإنهاء الانقسام، وجرى التوقيع على المصالحة التي يأمل كل فلسطيني أن تستمر وتسير قدما، وفتح المصريون معبر رفح بعد أعوام من الحصار الظالم بحق الغزيين من أبناء الشعب الفلسطيني، ورفرفت أعلام فلسطين في عدد من البلدان العربية يوم ذكرى النكبة.

فهل المسيرة ستتقدم نحو استعادة مكانة قدس العروبة ومركزيتها إلى قلوب الأمة أيضا، أم أن الطريق ما زال طويلا وشاقا بانتظار أن تدرك قيادات الأنظمة العربية أن التمسك بالسلطة وحكم الأمم لا يمكن أن يستمر بالسيف والعصا، وبأن تلبية حقوق ومطالب الشعوب المشروعة أمر لا يمكن الاستمرار بالتعامل معه بعبثية ومماطلة وتخاذل؟!
عن "صحيفة القدس"

التعليقات