14/06/2011 - 14:22

أعيدوا المصريين إلى الأرض../ نهلة الشهال

مَنْ، بعد ثلاثة عقود أو أكثر، يذكر فيلم "خرج ولم يعد"؟ أثار اعجابي أيامها حتى قمت بتدريسه لطلابي في الجامعة، ضمن مادة علم الاجتماع السياسي. ممثلوه، يحيى الفخراني خصوصاً، وفريد شوقي وليلى علوي، وضعوه ضمن أفلام القمة بالنسبة للجمهور العادي، ومحمد خان، مخرجه، حاول بث رسالته مبكراً: يتكدس المصريون في القاهرة بشكل خانق بينما الأرض المصرية مـعطاءة، وفيها كل الخير

أعيدوا المصريين إلى الأرض../ نهلة الشهال

مَنْ، بعد ثلاثة عقود أو أكثر، يذكر فيلم "خرج ولم يعد"؟ أثار اعجابي أيامها حتى قمت بتدريسه لطلابي في الجامعة، ضمن مادة علم الاجتماع السياسي. ممثلوه، يحيى الفخراني خصوصاً، وفريد شوقي وليلى علوي، وضعوه ضمن أفلام القمة بالنسبة للجمهور العادي، ومحمد خان، مخرجه، حاول بث رسالته مبكراً: يتكدس المصريون في القاهرة بشكل خانق بينما الأرض المصرية مـعطاءة، وفيها كل الخير.

كان طرحُ مثل هذه الأفكار في ذلك الوقت يعد عملاً رجعياً. كنا ما زلنا في حقبة تأليه التصنيع كوسيلة وحيدة للتقدم، وتقديس المدينية الحاملة للتحرر من التقاليد المحافظة والبنى الموروثة.. نط الفيلم إلى ذهني بينما كنت أمضي بضعة أيام في القاهرة هذا الأسبوع، حيث يتكدس الملايين في مساحة ضيقة، يهيم معظمهم على وجهه بلا عمل.

تتكاثر العشوائيات ـ أحياء الصفيح أو الطوب لا فرق، البائسة، النابتة بلا تراخيص ولا بنى تحتية، حيث تقول التقديرات إن ساكنيها يبلغ عددهم تسعة ملايين يزنرون القاهرة عن قرب ـ وتتحول أحياء قاهرية عريقة إلى ما يشبه العشوائيات، أو إلى favella كما في مدن أميركا اللاتينية الكبرى، وتولد مدن جديدة في الدائرة الصحراوية المحيطة بالقاهرة، مبان متواضعة من الطوب الأحمر سيجري تغليفها بعد حين بكساء، وبيعها لأطر جماعية أو لفئات محددة أو لأفراد، فتحضر حينها مشكلة أخرى تتعلق بتوفر النقل، وباختناق الطرق الموصلة إلى القاهرة بشكل دائم، ومشكلة ثالثة أو عاشرة، تتعلق بتضعـضع هذه المدن، أو سمها الأحياء الجديدة، المفتقدة غالباً للخدمات، والتي لا يربط بين سكانها رابط ولا علاقات اجتماعية.

هي مهاجع للنوم، يحيا المرء فيها مع عائلته متذكراً الحي القاهري الذي غادره، وإن كان بائساً تماماً. يقول لي السائق وهو يحاول الافلات، بلا رجاء، من زحمة المرور ليوصلني الى منزل صديقي الكاتب حسام تمام في مدينة الشيخ زايد، حيث يقيم هو نفسه، "الله يا ست على أمبابا (وهو حي شعبي جداً)، دي الحياة كانت هناك حلوة أوي، بس فضل الناس ييجوا حتى ما عادش فيها مكان للتنفس"، أو متذكراً قريته في نوستالجيا لا صلة لها بالواقع الذي حمل أباه أو جده على مغادرتها. عدد كبير من ساكني هذه الأحياء أمضى سنوات في دول الخليج، "حوش" ما يكفي لشراء الشقة الجديدة وتأسيس مصلحة صغيرة يعتاش منها.

يريد المصريون تلمس ما غيَّرته الثورة في واقعهم. كلهم يرون أن الحكم السابق كان مؤلفاً من حرامية. هذا الكلمة هي اليوم ولا شك الأكثر ترداداً في أفواه المصريين. قناعة عميقة قاطعة. وهم لا يجدون لمبارك وفريقه أية ميزة، بينما يستذكرون عبد الناصر والسادات، بل وحتى الملك، بحنين. يشير ذلك إلى تطلب الرؤية الاجتماعية الشاملة، ففريق مبارك يمثل انحطاطاً عن مفهوم الدولة بالمعنى المطلق، علاوة على أنه في بلد كمصر له أساس راسخ وتاريخي، بل يعجز فريق مبارك ونمط حكمه حتى عن تمثيل نظام رأسمالي. فهو ركز كل نشاطه على تنظيم النهب بمعناه المباشر وبالتواطؤ مع السلطات الغربية والشركات العالمية. وبلغ الأمر حد التجرؤ على ممارسة التجاهل التام للناس، كأنهم كتلة زائدة عن الحاجة. فنشأت بنية برَّانية، يَعْقد رموزها ومتنفذوها صفقات كلٌ على هواه، وقد تتضارب المشاريع المنفذة بشكل صريح، وقد يبقى المشروع جزئياً لا سابق له ولا لاحق، معلقاً في الهواء. وتلك هي بعض العلامات على المقاربة الاقتناصية التي سادت، وسمحت لهؤلاء المتنفذين بملء جيوبهم على تلك الصورة التي تظهر اليوم فضائحا على صفحات الجرائد.

لقد اختطف هؤلاء مصــر وراحوا بأســرع ما يمكنهم ينهبون ما يمكن نهبه، متجاهلين المجتمع تماماً ـ إلا بالقمع حين يلزم ـ ومتــسببين بتفــكيك ما تبقى من مؤسسات دولتـية. ومعظم أفراد هذه الفئة قاطعت القاهرة، وغادرت مـنازل وأحياء أجدادها حينما تكون قاهرية المنبت، بل ضاقت بها الأحياء البورجوازية من العاصمة، فخرجت هي الأخرى إلى مدن تنبت في الدائرة الصــحراوية القريبة من العاصمة، ولكنها بخلاف الأولى، مدن مسيجة بأسوار عالية، ومحاطة بحدائق، ويمكن لساكنيها الاكتفاء بها، حيث تجهز بالأندية الفاخرة ـ أحواض سباحة أولمبية في بلد تعز فيه المياه، ومساحات خضراء بضَّة للعبة الغولف، ومـلاه للسهر، ومدارس و"مولات" "كأنك في أوروبا" تقول الدعاية، وتُحرس فلا يكون الدخول اليها إلا بأذن. حالة تشبه المعسكرات، تنبئ هي الأخرى عن الانفصال عن المجتمع الذي طبع هذه الفئة الجديدة الحاكمة أو المتنفذة. وأما وضع أحياء كالزمالك والمهندسين، فيدعو للرثاء إذا ما كان المقياس في الحكم عليها هو الرفاهية المفترضة لساكنيها. وربما بقي حي "مصر الجديدة" وحده يحافظ على موقعه الطـبقي، ولكنه في نهاية المطاف على أطراف القاهرة باتجاه المطار.

وعدا العمران وما يحمله من دلالات بالغة، فهناك مثال قوي على سطحية هذه الفئة وطابعها البرَّاني والطارئ (بالنسبة للصلة بالمجتمع)، هو مصير جهاز "الأمن المركزي" الذي بناه الفريق الحاكم في فترة مبارك، وكان تعداده يفوق المليون وتسليحه على أعلى طراز وامتيازاته لا يتفوق عليها جهاز آخر، ووظيفته الحصرية القمع. وهو... ذاب كفص ملح حين هرب الحرامية أو اعتقلوا!

حسناً، هذا كله يعرفه أو يستشعره الناس. ولكم ماذا الآن، وقد ورث المجتمع هذا الخراب؟ كيف يمكن بلورة رؤية متكاملة للإفلات من هذا الوضع البائس، الشديد التراكم والتشابك؟ ليس عبر الكلام الجميل والمبادئ العامة والدعوات الإيديولوجية والنقاشات خارج الصدد عن الهوية وغيرها من عنــاوين مفتعلة، بل السؤال هو عن التصور القــابل للتـحقيق، الذي يقترح مخططاً فعلياً وإن استلزم تحقيقه سنوات عديدة، مخطط يستند إلى المشكلات الواقعية وإلى حلول واقعية. من يمكنه ذلك؟ هل ننتظر مستبداً عادلاً، في مقاربة شائعة ـ استقالية، أو ربما إحجامية إزاء هول الأمر، تعهد بالمهـمة الشاقة إلى منقذ، بطل أو مهدي لا فرق. وإلا، فكـيف تحقيق ذلك بواسطة القوى المتوفرة؟ الإجابة عن هذا السؤال هي ما يمكنه أن يحمل الناس على الصبر، وعلى الحفاظ على الأمل وعلى الاستعداد للعطاء، وهي كلها ميزات في الشخصية المصرية، دفع المقتنصون الحرامية الناس إلى نقيضها، فظهرت علامات الضيق والنزق على المصريين الطيبين، وانتشرت طبقات البلطجية واستبدت، وراحت فئات متعددة من أصحاب المشاكل الملحة تريد القبض على حلول فورية لمشكلاتها، في اقتناص مضاد ـ مفهوم بل مشروع ـ للحظة التغيير.

ليست الحالة في مصر تتعلق بتكتيكات سياسية ودعاوية يمارسها هذا الفريق أو ذاك الحزب. إنها إعادة بناء، ربما تتمكن في نهاية المطاف من محو الغبار المتراكم على كافة مباني القاهرة، بما فيها أكثرها جمالاً وترفاً ـ فتبدو متداعية رثة ـ وتعيد إلى المصريين رائحة أرضهم الطيبة، وربما عندها تتحقق دعوة محمد خان، فيخرج الكثير من أهلها عائدين إلى الأرض، ليعيشوا بكرامة ويأكلوا حتى الشبع، كما تستعيد القاهرة ألقها، فلا يتسبب سحر النيل الذي يخترقها بذلك الشعور العميق بالانفصام، وبالظلم: الظلم اللاحق بأهل الدرب الأحمر والحلمية، ناهيك بسكان العشوائيات.
"السفير"
 

التعليقات