22/06/2011 - 10:30

الفصل وثنائيّة القوميّة../ أمنون راز- كراكوتسكين*

الفصل ليس بين اليهود والعرب فقط، بل بين العرب والعرب. فمعنى التقسيم هو تكريس الفصل بين أجزاء الشعب الفلسطينيّ: الفصل بين الفلسطينيّين في إسرائيل والفلسطينيّين في المناطق المحتلّة؛ وفصل هاتين المجموعتين عن اللاجئين؛ وفصلهم لمجموعات داخل المناطق المحتلّة

الفصل وثنائيّة القوميّة../ أمنون راز- كراكوتسكين*
الفصل والتقسيم
الفصل هو المبدأ المسيِّر لتصوّر "السلام" الإسرائيليّ والذي يجسد دوافعه: ليس الهدف هو المصالحة على أساس العدل التاريخيّ، بل التطلع للتخلّص من العرب للحفاظ على أغلبية يهوديّة وتعريف الدولة كدولة الشعب اليهوديّ.
 
لكن الفصل ليس بين اليهود والعرب فقط، بل بين العرب والعرب. فمعنى التقسيم هو تكريس الفصل بين أجزاء الشعب الفلسطينيّ: الفصل بين الفلسطينيّين في إسرائيل والفلسطينيّين في المناطق المحتلّة؛ وفصل هاتين المجموعتين عن اللاجئين؛ وفصلهم لمجموعات داخل المناطق المحتلّة.
 
القوميّة الفلسطينيّة
 
يعبّر هذا الفصل عن الأساس المركزيّ الذي يستند إليه تعريف إسرائيل كدولة الشعب اليهوديّ، وهو نفي القوميّة الفلسطينيّة. توافق إسرائيل على منح الفلسطينيّين داخلها مواطَنة من الدرجة الثانية، ومواطَنة فلسطينيّة درجة ثالثة لسكّان المناطق المحتلّة، شريطة أن يتخلّى الفلسطينيّون نهائيًّا عن حقّ العودة. ترفض إسرائيل الاعتراف بالفلسطينيّين كقوميّة صاحبة حقوق. والفلسطينيّون مطالَبون بالتخلّي عن قوميّتهم، أي التخلّي عن مجرّد الشعور بالانتماء إلى هذه البلاد. ولا يمكن الاعتراف بحقوقهم الجزئيّة إلاّ إذا صرّحوا بأنّهم غرباء. هذا هو التصوّر القائم في صُلب المعادلة "البريئة": "دولة الشعب اليهوديّ". يجري التعبير عن هذا النفي عبر النفي الجارف لحقّ العودة، الأمر الذي يؤثّر أيضًا على مكانة الفلسطينيّين داخل فلسطين.
 
على هذه الخلفيّة تبرز أهمّيّة طرح الاعتراف بالقوميّة الفلسطينيّة كشرط أساسيّ. ومفهوم "القوميّة" هنا لا يتطرّق بالضرورة إلى نوع من الإحساس القوميّ أو الهُويّة، بل يمثّل مقولة تُعرّف الحقوق، وفي مركزها حقّ الانتماء إلى البلاد. ففي حالة غياب الموقف القوميّ، يجري نفي أسس المطالَبة بالحقوق، ويجري تكريس إطار النقاش الذي تمليه إسرائيل. فطالما ليس ثمّة موقف قوميّ فلسطينيّ من وجهة النظر الإسرائيليّة، ستستمرّ عمليّة تجزئة النضال لإحقاق الحقوق الفلسطينيّة الجماعيّة المختلفة، وبذلك تكريس الترتيبات التي تطرحها إسرائيل.
 
علاوة على ذلك، إنّ الاعتراف بالقوميّة الفلسطينيّة والحقوق المشتقّة من ذلك هو شرط للنقاش العميق والصريح حول حقوق اليهود.
 
ثنائيّة القوميّة
 
هذا هو السبب لاعتقادي بأنّ إطار ثنائيّة القوميّة هو نقطة انطلاق لأي نقاش حول مسألة فلسطين. وأنا لا أقصد بمفهوم "ثنائيّة القوميّة" حلّ الدولة الواحدة بالضرورة، بل أقصد مبدأين أساسيّين على كلّ مسار سياسيّ ضمانهما: أوّلاً، مساواة قوميّة ومدنيّة بين اليهود والعرب في البلاد؛ ثانيًا، مصالحة تقوم على أساس العدل التاريخيّ. معنى هذا أن مفهوم ثنائيّة القوميّة لا يُعرّف "الحل"، بل يشكل نقطة الانطلاق الضرورية ووجهة النظر التي ينبغي أن تُرشد جميع المعارك النضالية للدمَقْرَطَة ولتفكيك الكولونياليّة. وفي صُلب نقطة الانطلاق هذه الاعترافُ بأنّه لا يمكن فصل مناقشة حقوق اليهود عن مناقشة حقوق الفلسطينيّين. يفضّل العديد من المشاركين في النقاشات الجارية تجاهلَ مفهوم ثنائيّة القوميّة، وهم بهذا يتجاهلون التعريف الأساسيّ للواقع.
 
لم أكن منذ البداية من مناصري الموديلات، وأعتقد أنّ النقاش الحاليّ الذي يتمحور حول سؤال "هل يجب أن تقوم دولة واحدة أم دولتان؟" يموّه عمليًّا الأسئلة المبدئيّة؛ فالنضال والأحداث هي التي تعمل على خلق الحلول، وكي يصبح النضال ممكنًا تجب بلورة موقف مبدئيّ.
 
حقوق اليهود
 
إطار كهذا للنقاش يلزمنا بالذات بطرح سؤال لا يكاد يُطرح ألبتّة: ما هي حقوق اليهود في فلسطين /أرض إسرائيل؟ ففي المعتاد، نركز -وبصورة طبيعيّ- على حقوق الفلسطينيّين، لأنها هي الحقوق المنتهكة تكرارًا. لكن المسألة الحقيقية المطروحة للنقاش، هي بالذات السؤال: ما هي الحقوق الجماعية لليهود؟ فمن الناحية المبدئية، حقوق الفلسطينيّين مفهومة ضمنًا، وحرمانهم من حقوقهم القوميّة لا أساس له. لذلك، إن حقوق اليهود بالذات، والتي تقوم حاليًّا على أساس تفسيرات مسيانيّة للتاريخ، والتي تبلور سيرورة متواصلة من التهويد ومحو التعريب، ليست مفهومة ضمنًا. الاعتراف بحقوق اليهود يعني –بالطبع- تقليصها تقليصًا ملحوظًا، من خلال تعريف الوجود اليهوديّ في البلاد من جديد. إن الفرضية الأساسية لمناقشة حقوق اليهود هي الاعتراف بالقوميّة الفلسطينيّة، بما في ذلك حق العودة. لكن في سبيل تعزيز تطبيق هذه الحقوق، ثمّة ضرورة للاعتراف في الوقت نفسه بالحقوق الجماعية لليهود. بدون ذلك، تبقى التصريحات الداعمة لحقوق الفلسطينيّين بدون معنى وبدون مسؤوليّة.
 
الإطار الحاليّ للنقاش يفسح المجال أمام تعريفين محتملَين ومتطرّفين للوجود اليهوديّ: الأوّل هو القبول بإسرائيل كما هي، وبناء على تعريفها هي لنفسها. وهذه هي عمليًّا الفرضيّة الأساسيّة لـِ "عمليّة السلام"؛ الثاني هو تجاهل تامّ للوجود اليهوديّ، وأحيانًا من خلال الافتراض أنّ إسرائيل ستزول من تلقاء نفسها. لا يختلف هذا التوجّه مبدئيًّا عن نفي الصهيونيّة للقوميّة الفلسطينيّة. يساعد هذا الإطار الدعاية الإسرائيليّة بعرض كلّ انتقاد أساسيّ للنظام الإسرائيليّ وكأنه نفي لحقّ تقرير المصير لليهود أو كمطالَبة بالقضاء على إسرائيل.
 
علينا أن نجد الحيّز بين هذين التوجّهين، الحيّز الذي بدونه لا يمكن الاستئناف على التعريف الحاليّ لإسرائيل /فلسطين. هذا هو –في رأيي- الدور الملقى على عاتقنا كيهود يعترفون بالحقوق القوميّة للفلسطينيّين ويؤمنون برؤية الحياة المشتركة. علينا نحن طرح مسألة اليهود وطلب الاعتراف بالوجود المستقلّ. بغية منح معنى لمسألة حق العودة، علينا التأسيس لنقاش تجري من خلاله إعادة النظر في مسألة اليهود. هذه هي -في رأيي- القاعدة لتفكيك الكولونياليّة، والتي لا تعني -في حالة إسرائيل /فلسطين- الانسحاب فحسب، بل هي سيرورة من التغيير الهامّ الذي يجب أن يطرأ على الوعي الإسرائيليّ.
 
يثير مفهوم "ثنائيّة القوميّة" الكثير من الهلع لدى الإسرائيليّين، ويجري تعريفها بأنّها مثابة "القضاء على دولة إسرائيل". تثبت هذه الحقيقة بحدّ ذاتها أنّ الأساس الذي يقوم عليه تعريف إسرائيل هو نفي مبدأ المساواة. فغالبيّة الإسرائيليّين يرفضون اليوم على نحوٍ قاطعٍ الاعترافَ بحقوق الفلسطينيّين، ولا سيّما حقوقهم القوميّة. مع ذلك، لا يجوز الاستهتار بالتخوّفات الفعليّة، وعلينا التعامل معها بجِدّيّة. لذلك، الطريق الوحيدة أمام الإسرائيليّين هي التوجّه إلى مصدر الهلع، أي النفي والإنكار الجارف للنكبة. وعليهم تحمّل المسؤوليّة كقاعدة للنقاش المشترك، وعليهم أن يدركوا أنّ الذين بحاجة إلى الاعتراف هم ليسوا الفلسطينيّين، بل يهود إسرائيل بالذات. ليس ثمّة سبب للتوقع أن يتنازل اليهود عن امتيازاتهم، إلاّ إذا أدركوا أنّ هذه هي الإمكانيّة الوحيدة الماثلة أمامهم. وبالفعل، هذه هي الإمكانيّة الوحيدة لإنقاذ إسرائيل من تسارعها العنيف نحو إفناء نفسها، وهو ما قد يأتي بالكارثة على المنطقة بأسرها.
 
قد يُعتبر الاعتراف بالمساواة، من وجهة النظر الفلسطينيّة، تنازلاً مؤلمًا. فهذا يعني الاعتراف بحقوق متساوية للمحتلّين. لقد ساوم الفلسطينيّون، من الناحية العمليّة، مقابل أقلّ من ذلك بكثير، لكنّني أعتقد بأن "المساومة" المبدئيّة بالذات هي الأهمّ وهي المطلوبة. الاعتراف بثنائيّة القوميّة هو إعلان واضح عن السيادة الفلسطينيّة، وهو قاعدة الشراكة التي تضمن الحقوق.
 
ثمّة العديد من الطرق لتحقيق تلك المبادئ. منذ البداية ينبغي أن نتذكّر أنّه من غير الصحيح مناقشة مسألة فلسطين على نحو منفصل، بل باعتبارها جزءًا من المنطقة ومن العالم العربيّ عمومًا. ولا يمكن لثنائيّة القوميّة الاستناد إلى عزل الفلسطينيّين عن العالم العربيّ، بل عبر دمج إسرائيل داخل العالم العربيّ. هذا هو السياق الكامل لإطار ثنائيّة القوميّة. وفي هذا السياق، إنّ طرح مسألة حقوق اليهود في مركز النقاش قد يشكّل قاعدة للتفكير المتجدّد بالقوميّة العربيّة.
----------
نشر في العدد العلشر من مجلة "جدل" الصادرة عن مركز مدى الكرمل

التعليقات