23/06/2011 - 10:57

عرب 48: السر المخفى في خزانة "العمليّة السلميّة"../ يهودا شنهاف*

يشكّل عرب 48 الحاجزَ الأخيرَ أمام إقامة مثل هذا النظام، لأنهم التذكار المتكرر للسرّ المُخفَى في خزانة النظام، أي التطهير العرقيّ لفلسطين عام 1948، عمليّات التهجير، سلب الأراضي، تدمير القرى والمدن، والسرد التأريخيّ الذي يرمي إلى تسويغ كل ذلك

عرب 48: السر المخفى في خزانة
منذ عقدين من الزمن، يطالب اليهود في إسرائيل، وبدعم دولي عارم، تحقيق حل الدولتين: إسرائيل وفلسطين، على أساس الخط الأخضر على مختلف صياغاته ("الفصل"؛ "تعديلات حدودية"؛ "مع الكتل الاستيطانية أو بدونها")، بحيث يكون ذلك مؤشرًا إقليميًّا لنهاية الصراع من الناحية الحدودية.
 
لكن بينما تنتشر فكرة الدولتين في العواصم الأوروبية وشمال أميركا كحلّ مغرٍ، فقد بقي على مستوى الممارسة السياسيّة كشعار فارغ من أي مضمون. فجميع المؤتمرات واتّفاقيّات السلام الاستعراضيّة منذ أوسلو، مرورًا بكامب ديفيد ومحادثات طابا حتّى مؤتمر أنابوليس، قد فشلت. التفسير الرائج لهذا الفشل بين اليهود هو أنّه ليس ثمّة "شريك" فلسطينيّ لإنهاء الصراع. لكن "خطاب السلام" قد وصل إلى طريق مسدود، وليس ذلك بسبب غياب شريك فلسطينيّ، بل بسبب تصوّر النظام الإسرائيلي الذي يُفْضي -مرّة تلو الأخرى- إلى نقاشات عقيمة.
 
يدّعي هذا التصوّر ضرورة تمسُّك الدولة اليهوديّة باحتكار حصري على المكان وعلى وسائل العنف داخلها. وللحفاظ على تجانس الهُويّة القوميّة اليهوديّة في حيّز إقليميّ خالٍ من الفلسطينيّين ذوي الهُويّة الجماعيّة، يحتاج هذا النظام إلى وسائل قمعيّة، ومن بينها حالة الطوارئ المستمرّة. وهذا ما كان في صلب فكرة إقامة الدولة اليهوديّة، وهو العنصر الذي بسببه سوف تستمر الحرب الشعواء ضدّ عرب 48 الذين يتطلّعون إلى هُويّة مستقلّة. ليس باستطاعة نظام كهذا أن يكون ديمقراطيًّا.
 
يشكّل عرب 48 الحاجزَ الأخيرَ أمام إقامة مثل هذا النظام، لأنهم التذكار المتكرر للسرّ المُخفَى في خزانة النظام، أي التطهير العرقيّ لفلسطين عام 1948، عمليّات التهجير، سلب الأراضي، تدمير القرى والمدن، والسرد التأريخيّ الذي يرمي إلى تسويغ كل ذلك. حقيقة كون عمليّة تطهير مناطق السيادة اليهوديّة، بواسطة تهجير الفلسطينيّين وترهيبهم ودفعهم إلى الهرب، لم تكتمل، أبقت الفلسطينيّين في إسرائيل كدليل دامغ على الطابع اللا ديمقراطيّ للسيادة الإسرائيلية. رغم أنّ السرديّات التاريخيّة حول تلك العمليّات مركّبة، ليس ثمّة نقاش حول أنّ دولة السيادة الإسرائيلية قد منعت عودة اللاجئين بعد الحرب، وقامت بمصادرة أراضي وأملاك الفلسطينيّين من أجل بناء سيادة حصريّة للمجموع (الكولكتيف) اليهوديّ. ليس ثمّة مكان لهُويّة جماعيّة فلسطينيّة داخل هذا النموذج للنظام، والدليل على ذلك أنّ عرب 48 لم يُعتبروا أبدًا كشركاء في العمليّات السلميّة المختلفة. بل يجري التعامل معهم داخل هذا النظام كرعايا الدولة اليهوديّة، أو كملحق للصراع، لا كشركاء فيه.
 
من أجل التعامل مع هذا الشذوذ للنظام، يجب تحديد عام 1948 كنقطة مفصليّة في تاريخ الصراع، ونفي أنموذج عام 1967، الذي يعتبر احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967 المسألة المركزيّة. يخدم أنموذج 1967 بشكل خاصّ مصالح النخب الليبراليّة اليهوديّة، وينشر الوهم بأنّ إسرائيل هي ديمقراطيّة قد فسدت بسبب حادث تاريخيّ مؤسف وقع عام 1967، وأنّها (أي الديمقراطيّة الإسرائيليّة) ستعود إلى صوابها بعد "إنهاء الاحتلال". هكذا يعمل أنموذج 1967 على طمس أسس التطهير العرقيّ التي يقوم عليها النظام الإسرائيليّ.
 
السر المخفى في الخزانة هو ليس التطهير العرقيّ عام 1948 فحسب، بل يتجسّد ذلك في نظريّة الدولة حول النظام. وهي نظريّة عنيفة عملت على رسم جميع تصوّرات السلم والحرب، وهي المسؤولة إلى حدّ بعيد عن سفك الدماء المستمرّ. الخطر الأساسيّ الكامن في ذلك، بما في ذلك لليهود أنفسهم، هو أنّه بالإمكان إنتاج هُويّة قوميّة-إثنيّة متجانسة على مساحة إقليميّة مغلقة بإحكام. على إسرائيل "اليهوديّة والديمقراطية" مواجهة هذا السر المُخفَى لخلق نظريّة سياسيّة جديدة لا تقوم على حالة طوارئ مستمرّة، وعلى السلب والقمع السياسيّ.
 
تتطلّب نظريّة سياسيّة يهوديّة جديدة العودة إلى عام 1948 كنقطة أرخميديّة للتفكير حول الصراع. وعلى خلاف خطاب السلام الذي أقصى عرب 48 خارج معادلة الصراع، تجب العودة إلى التفاوض مع عرب 48، ومع الفلسطينيّين بصورة عامّة (وبمن فيهم اللاجئون)، وحول صيغة جديدة لتعريف السيادة. فرضيّتي الأساسيّة هي أنّ تقسيم البلاد إلى وحدتين سياسيّتين يقف جدار الفصل بينهما، غير ممكن، وغير أخلاقيّ، بل وهدام من النواحي السياسيّة، الجغرافيّة، الاقتصاديّة، المدنيّة والدينيّة.
 
فبدل السيادة كاحتكار حصريّ على المكان وعلى الهُويّة القوميّة بناءً على معاهدات وستفاليا من منتصف القرن السابع عشر، أقترح التفكير بسيادة ما بعد وستفالية. يكون المبدأ الأساسيّ لهذا التفكير أنّ السيادة هي ممارسة مثقّبة، غير متواصلة ومتعدّدة. وهي تفترض وجود سيادات متقاطعة ومشتركة تنتظم بشكل مركّب في فضاءات مختلفة لمجال العيش المشترك في الحيّز. في هذا الإطار، من السيادة ما بعد الوستفالية، على اليهود التخلّي عن الامتيازات التي حصلوا عليها بفعل عنف السيّد الجديد عام 1948، وخلال العقود المتعاقبة، وذلك لصالح بنية سياسة غير مركزيّة، هلاميّة وأكثر عدلاً. ليس على هذه البنية الأخذ بعين الاعتبار الصراع بين اليهود والفلسطينيّين فحسب، بل كذلك الفجوات الإثنيّة والدينيّة والطبقيّة الهائلة بين اليهود أنفسهم، وإجراء تغيير ثوريّ على سياسة الأراضي في إسرائيل.
 
فعلى سبيل المثال، سيكون على اليهود الليبراليين الذين يعيشون في تل أبيب والذين يتمتّعون بالامتيازات، عليهم المساهمة بقسطهم لحلّ الصراع، تمامًا كما سكّان المستوطنات الفقراء في أريئيل أو معليه أدوميم. داخل هذا النظام السياسيّ من اللا مركزيّة والانفتاح الحيّزيّ، سيصبح من الممكن السماح بعودة اللاجئين الفلسطينيّين، لا كفكرة رمزيّة من الاعتراف بالغبن فحسب، بل كفعل سياسيّ حقيقيّ. صحيح أنّ فكرة العودة ستقوم على أساس جغرافيّة الحيّز ما قبل حرب 1948 كدليل أخلاقيّ، لكن ينبغي -في نفس الوقت- الحرص على عدم إصلاح الغبن الأخلاقيّ السياسيّ بواسطة خلق غبن جديد. ليس في الإمكان ضمان حقوق اليهود في الحيّز إلاّ داخل بنية سياديّة كهذه.
 
عن مجلة جدل، العدد العاشر، مدى الكرمل

التعليقات