23/06/2011 - 12:09

عن مساهمة الأحزاب في تعطيل دور الحركة الطلابية../ د. عمر سعيد

أخفقت الحركة الطلابية في جامعة حيفا في جعل انتخاباتها الأخيرة محركا لانطلاقة وطنية جاذبة ورافعة معنوية مقنعة لاستعادة عنفوان الحياة السياسية والثقافية لجسدها المتثاقل، وتحويلها مثالا للاقتداء في الساحات الطلابية الأخرى. هذه الحقيقة المقلقة تزداد إيلاما بالذات لكونها الانتخابات الطلابية الأولى، بعد طول غياب وعناء، التي جرت فصولها في عهد الثورات العربية بما ينبغي أن يحملها ذلك على إبداء قدر عال من الانضباط المسؤول والانفراج السياسي والتسامح وشحن أجوائها بعبق المناقشات الفكرية والسياسية الجدية والمجدية، بعيدا عن النزق المنفلت والجدل الهابط والتقولات الرديئة

عن مساهمة الأحزاب في تعطيل دور الحركة الطلابية../ د. عمر سعيد
ملاحظات نقدية على هامش المؤتمر السادس للتجمع الوطني الديمقراطي
 
أخفقت الحركة الطلابية في جامعة حيفا في جعل انتخاباتها الأخيرة محركا لانطلاقة وطنية جاذبة ورافعة معنوية مقنعة لاستعادة عنفوان الحياة السياسية والثقافية لجسدها المتثاقل، وتحويلها مثالا للاقتداء في الساحات الطلابية الأخرى. هذه الحقيقة المقلقة تزداد إيلاما بالذات لكونها الانتخابات الطلابية الأولى، بعد طول غياب وعناء، التي جرت فصولها في عهد الثورات العربية بما ينبغي أن يحملها ذلك على إبداء قدر عال من الانضباط المسؤول والانفراج السياسي والتسامح وشحن أجوائها بعبق المناقشات الفكرية والسياسية الجدية والمجدية، بعيدا عن النزق المنفلت والجدل الهابط والتقولات الرديئة.
 
هذا أقل ما كنا نتوقعه من قطاعنا الطلابي بكافة تشكيلاته، غير أن النتائج الفعلية أفادت بما هو عكس ذلك. حينما نقرأ أدبيات تلك الحملة الانتخابية وما رافقها من "حوارات" ستتبدى أمام ناظرينا صورة قاتمة تتلخص بوجه عام بشيوع قسوة الأسلوب واعتماد الاستعراضية الجوفاء، قطعية الاستنتاجات وعدمية المواقف وتأخر وضحالة البعد المعرفي فيها، هذا بالإضافة إلى إسكانها بكثير من التشنجات المحزنة والتلميحات الطائفية المؤسفة، وبالتالي فقد أفضت هذه المناخات إلى إهدار فرصة سانحة لعرض المشاريع والرؤى ولتطوير حوار نقدي عميق يستفاد منه وبه.
 
وبصرف النظر عن مدى ضلوع كل جهة في حرف وتجويف المضامين والأساليب المتوخاة...إلا أنني لا أعفي الأحزاب السياسية الأم من مسؤولية تلك الانتكاسة، وعليه فإنها مطالبة جميعها بوقفة تقييم جذرية لاستخلاص العبر، وهذا ما تقتضيه المسئولية الوطنية.
 
قد يكون الاعتراف بالحقائق المؤلمة، وكما هي، عملا شجاعاً يستوجب أحيانا قدراً معيناً من نكران الذات كونه يضع الطرف المعني في خانة الضعف، وينزع عنه صفات جميلة لطالما تغنى بها. ومهما يكن تشخيص الواقع حقيقياً وعميقاً بمداه، إلا أنه يظل غير ذي قيمة إذا لم يتبق منه تصور مناسب لمواجهته وإبطال سمومه الخطرة بهدف تجاوزه.
 
يمتاز القطاع الطلابي، عادة، بروحية التمرد والطلائعية الثورية، وحضور نزعة النقد والتغيير وتبني المواقف غير التقليدية قياسا بقيادة أحزابه التي تفضل اعتماد السياسات الثابتة والتعايش مع الواقع من أبواب مريحة فكريا وسياسيا ونضاليا. لهذا السبب تحديدا، فقد شكلت الحركة الطلابية بطبيعتها تلك أداة حيوية "ومشاكسة" للضغط على أحزابها في تطوير خطابها السياسي والفكري وتقويم سياساتها، ناهيك عن رفدها بقيادات المستقبل التي تؤمن المزيد من الاغتناء والتنجيع في مواجهة عقلية السباحة في عالم المسلمات.
 
وفضلا عن دورها في شحذ وشحن الشعار السياسي، فإن الجناح الطلابي وبحكم تماسه المتواصل مع إنجازات العلم والفكر في جبهة الحداثة والعصرنة، فإنه يلعب دورا لا يستهان به في التأثير على مضامين الخطاب الاجتماعي التنويري عبر تعميم قيم الديمقراطية والحرية والتسامح والدفاع عن كرامة الإنسان وخياراته الشخصية، خاصة في المجتمعات التي ترزح تحت وطأة القهر والجهل والتهميش.
 
ولكن، وعلى ما يبدو، فإن قادة الجناح الطلابي في الحركة الإسلامية يتحركون خارج هذا السياق، بل ويخالفون ذاك المنطق المذكور بمزيد من التشدد والانغلاقية في توجهاتهم الاجتماعية والفكرية، وبهذا يمثلون حالة معاكسة للدور التنويري المنتظر منهم داخل أحزابهم ودوائر مؤيديهم. فكلما أمعنا النظر في أدبياتهم الانتخابية نجد كأن منطقها العام يتحرك بإصرار في فلك القاعدة الشرعية المعروفة بـ"درء المفاسد مقدم على جلب المصالح" بنصها الحرفي المبتور عن سياقه التاريخي والمخالف بهذا لمقاصد الشريعة الكلية.
 
ونتيجة لتأويلهم القطعي لهذه القاعدة، تتضخم، في وعيهم، صغائر الأمور الخلافية على حساب الضروري والأهم، فيندفعون وكأن مهمتهم الطلابية الملحة تنحصر أساسا بإعادة تدشين قواعد الدين وتثبيت الأسس الإيمانية ونشر الفضيلة، وينسون أن تعدد المرجعيات والتنوع الفكري والاجتماعي باتت بذاتها مركبا عضويا من العقل الاجتماعي الحديث وأمرا طبيعيا في هذا الزمان، ولهذا نجدها تجعل من العلمانية بكل تعبيراتها وتشكيلاتها رمزا للفساد والإفساد.
 
صحيح أن قيادات الإسلامية عندنا قد قطعت شوطا لافتا في مد جسور التعاون وساهمت بهذا في إرساء قواعد عقلانية في مجال التعامل مع الأحزاب والحركات الوطنية العلمانية، مما خلق انفراجا ملموسا في فضائنا السياسي،.. غير أن هذا الوعي، وعلى ما يظهر، ظل من نصيب تلك النخب القيادية ولم يترجم إلى حالة سلوكية عامة لدى كوادر وأبناء الإسلامية.
 
في عهد الحرية والثورات العربية، تحول اختلاف المرجعيات والتقاء الأهداف وتقارب الرؤى، إلى عامل إثراء وتكافل لتيار التغيير والثورة، حيث تلاحمت الجموع الشبابية بكافة ألوانها في ساحات الحرية وعلمت الدنيا دروسا مكثفة في التسامح الديني والاجتماعي. ولكن أخبار تلك الحوادث لم تصل بعد إلى مسامع قادة الحركة الطلابية الإسلامية، التي ما فتئت منشدة بخشونة وغلظة لقضايا ثانوية تتعلق أساسا بالخيارات الاجتماعية الشخصية، لتعين أفرادها ضباطا في "شرطة الأخلاق والآداب" أو طلائع "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" في مسعى مستهجن لفرض تصوراتها الاجتماعية على جموع الطلاب.
 
ومع هذا النهج المتشدد والأفق المنسد، فقد ظلت تراوح في دائرة قصورها عن استيعاب وهضم أدوارها الحقيقية ونأت بنفسها عن تمثل التغيرات النوعية التي اجتاحت معاقل الجميع وعلى رأسها التيار الإسلامي.
 
إن تفسير تلك الفوارق بمستوى الوعي الثقافي بين التيار الديني الشبابي في العالم العربي وبين الكوادر الطلابية الإسلامية في الداخل مرده أن الأخيرة "تتمتع" حتى النهاية بالهامش العنصري للديمقراطية الإسرائيلية، في حين أن الحركات الإسلامية العربية محرومة من مثل هذا، بل تتعرض للتنكيل والتعذيب الوحشي من قبل أجهزة القمع السلطوية، مما يضع مطلب الحرية والديمقراطية في رأس أولوياتها.
 
 إن اهتمامي هنا في نقد ممارسات الجناح الطلابي الإسلامي ليس معناه أن حال المركبات الأخرى ممثلة بالجبهة والتجمع مرض وجيد، حيث كان نصيبهما وافرا في حرف قاطرة العمل الطلابي والوصول بها لتلك النتائج المحزنة. فالحزب الشيوعي عامة، ومن ورائه شريحة من الأوساط الجبهوية، ولا يخلو الأمر من بعض العناصر التجمعية أيضا، ما زالت تتبنى موقفا عدميا فجا تجاه موروثنا الثقافي العربي الإسلامي، بل ويكاد يتبرأ منه بالمطلق، بينما يستبطن العلمانية بمفهومها السكوني - اللاتاريخي كما لو أنها أيديولوجيا مقدسة على نحو يشبه السلفية الدينية، وتحاط بكثير من الممارسات الملتبسة التي أضحت شرطا ضروريا لقبول عضويتهم في "النادي الثوري العلماني".
 
 انطلاقا من هذه الرؤية التغريبية العمياء، يتعامل غالبية نشطائهم مع ظاهرة الأحزاب السياسية الإسلامية باعتبارها أحزابا طائفية طارئة على المشهد الوطني، وتسعى لشرذمة المجتمع من خلال مواقف وإجراءات مفارقة لروح العصر وحابسة للنهضة، وهو تقييم غير صحيح لا من الناحية التاريخية ولا الواقعية، حيث شكل الدين الإسلامي، وعلى امتداد حقبه المتعاقبة، الوعاء والفضاء الأيديولوجي الفسيح لتطور كافة التيارات والمدارس الفكرية المختلفة التي أنبنت وتنوعت جواهرها من خلال حوارها وجدلها مع النص. غير أننا نتشاطر جميعا مبدأ رفض التخريجات التي هيمنت ردحا من الزمن على عقلية التيار الإسلامي والتي سعت إلى الإيهام بوحدة وتماهي اجتهاداتهم السياسية مع العقيدة الإسلامية، وعليه يصبح من يعارض تأويلاتهم السياسية، ويختار العمل في نطاق أحزاب خارجة عن تشكيلاتهم الدينية معاديا ومتجرئا على الدين، وهي مسألة تجاوزها التيار الإسلامي الرئيسي منذ عقود خلت.
 
من هنا فان أبسط قواعد العلمانية العقلانية تقتضي، ممن ينصب نفسه وصيا عليها، ممارسة نقاشه ونقده المشروع على أرضية صلبة من احترام الرأي الآخر مهما خالفه، والدفاع عن حقه وكرامته واختلافه، لا أن يستل منظومة مستهلكة من الأوصاف المهينة مثل "الظلامية" و"التخلف"... وما الى ذلك من مسميات تعكس لحد بعيد عقلية استعلائية مستهترة، بل وقد تتعدى ذالك لتطال مسائل دينية إيمانية، وترمى هكذا في فضائنا الاجتماعي بمناسبة أو غير مناسبة، حيث تستدعي هذه الأفعال النفور والاشمئزاز من مطلقيها، وتكرس الفهم العامي والسطحي لمعنى الحداثة العقلية وتسدد ضربة قاسية لمفهوم العلمانية كما يتعين أن نفهمه ونمارسه جميعا.
 
مثل هذا الاشتباك العبثي المتبادل ينبغي أن يدان وأن يتوقف فورا من خلال تفاهمات مخلصة بين كافة الفعاليات السياسية، وأن تترجم إلى تعليمات تقتضي التنفيذ ولا تحتمل التأويل، هذا إذا أردنا فعلا حماية مجتمعنا وتعزيز دور أطره الاجتماعية والسياسية، وتحاشي انفراط عقدنا الاجتماعي المبني على الوحدة والاحترام المتبادل.
 
لا استثني مما سقت سابقا نشطاء التجمع الوطني هناك، بل وأزيد عليه أن حزبنا ورغم تفرده وتميزه في مسألة الجمع الواعي بين انتمائه لجذوره الثقافية العربية الإسلامية واستدخاله قيم الحداثة العلمانية الواعية، وتطويره، دون غيره، مشروعا خاصا بجماهير الداخل، بالإضافة لجهده المتواصل في تعميق ثقافة احترام الآخر والتعامل مع الأمور الخلافية من زاوية عقلانية دون مواقف مسبقة، إلا أنهم فشلوا في عرض الرؤية الوطنية التنويرية، رغم عزيمتهم البارزة وجهودهم المبذولة، وانجروا من حيث لا يدرون إلى متاهات النقاشات والمزايدات الاجتماعية الفارغة أحيانا، وهكذا أصبح نشاطهم وكأنه ردات فعل على الهجوم من قبل الإسلامية والجبهة على حد سواء، وكتحصيل حاصل في مثل هذه الأجواء سيعلو صوت التعصب على التعقل خاصة حين يغيب الضبط المركزي من قبل كافة الأحزاب الأم.
 
مع ذلك كله، لا ينبغي لتلك الأحداث الانتخابية المحبطة أن تدفعنا للتراجع عن مواقفنا المبدئية ونهجنا في تثبيت قيم التسامح والاحترام في تعاملنا مع الجهات الأخرى، فجميعنا أبناء لقضية واحدة واجتهاداتنا هي مشاريع للتغيير، وان اختلفت فكلها لخدمة مجتمعنا. نحن لا نضع خطا أحمر أمام الحركة الإسلامية أو الجبهة مثلما يمارس ذلك غيرنا، فكلاهما رفاق وإخوة لنا، وعليه فإن دورنا الوطني الأخلاقي يجب أن يتعدى مجرد طرح ونشر مواقفنا وصولا إلى المساهمة في جسر الهوة والخلاف بين الأطر السياسية الفاعلة، وتأسيس أرضية للحوار والنقاش تؤمن لمشاريعنا الثراء والإثراء المتبادل والتثاقف الايجابي بعيدا عن عقلية الإقصاء والانتقام والحقد.
 
فمن ناحية يلتقي التجمع مع التيار الإسلامي في رفض اعتبار إسرائيل دولة تجسد حق تقرير المصير لليهود، ويعتبرأنها كيانا استعماريا أقيم على أنقاض وخرائب شعبنا، وبالتالي فكلانا يرى نفسه جزءا لا يتجزأ من الحركة الوطنية الفلسطينية، ويدعمان فكرة التحالف القومي الإسلامي، ويتفقان على أهمية إقامة مؤسسات وطنية وتمثيلية جامعة لأهلنا في الداخل، وهذا بذاته يمثل قاسما مشتركا بالغ الأهمية، ونختلف، بطبيعة الحال، حول مواقف اجتماعية وسياسية كثيرة. ونحن بهذا الموقع المتميز القريب البعيد فإننا نمارس نقدا جذريا ومسئولا للخطاب السياسي والاجتماعي من داخل ثقافتنا خدمة للمشروع النهضوي الجامع، واستنادا لرؤيتنا التنويرية بشكل يضمن إنجاز نتائج حقيقية وواقعية في مواقف وعقلية الأحزاب الإسلامية والمجتمع على حد سواء ويدفع بمزيد من اللحمة والوحدة.
 
ومن ناحية ثانية فان تقاطعنا مع الجبهة في الرؤية الاجتماعية العامة ومسألة الحريات الشخصية ومواقف سياسية كثيرة، واختلافنا الجذري في قضية حق تقرير المصير لليهود ونظرتها تجاه موقع ومستقبل فلسطينيي الداخل... لا يجب أن يفسد ضرورات التفاعل بيننا أو أن يدفعنا إلى قطيعة سياسية معها، بل إلى مزيد من التداخل والمناقشة والنقد المسؤول لخطابهم الثقافي والوطني، وهي مسألة ممكنة في ظل علاقاتنا الاجتماعية المتقاربة والمتشعبة.
 
من هنا فان معايير النجاح في أي عمل انتخابي أو جماهيري ينبغي أن يستند أساسا على قدرتنا على التأثير في عقلية وخطاب المجتمع وتياراته الفكرية والسياسية، وهو أمر لا شك أن نتائجه باتت ملموسة حتى في داخل قطاعات كبيرة من الجبهة والإسلامية.

التعليقات