06/07/2011 - 11:09

مقاومة الفلسطينيين بين الشعارات والإحصائيات../ ماجد كيالي

انشغل الفكر السياسي الفلسطيني (منذ أواسط السبيعينيات)، بمناقشة جدوى الحل المرحلي، ومشروع الدولة المستقلة في الضفة والقطاع، كما انشغل بعد اتفاق أوسلو (1993) بمشروعية عملية التسوية، وجدوى عملية المفاوضات مع الإسرائيليين (إلى جانب قضايا الوضع الداخلي)، وهي نقاشات أثرت الفكر السياسي عند الفلسطينيين، وأكدت حيويته، وتعدديته

مقاومة الفلسطينيين بين الشعارات والإحصائيات../ ماجد كيالي
انشغل الفكر السياسي الفلسطيني (منذ أواسط السبيعينيات)، بمناقشة جدوى الحل المرحلي، ومشروع الدولة المستقلة في الضفة والقطاع، كما انشغل بعد اتفاق أوسلو (1993) بمشروعية عملية التسوية، وجدوى عملية المفاوضات مع الإسرائيليين (إلى جانب قضايا الوضع الداخلي)، وهي نقاشات أثرت الفكر السياسي عند الفلسطينيين، وأكدت حيويته، وتعدديته.
 
لكن الفكر السياسي الفلسطيني، الذي ساد طوال العقود الأربعة الماضية، ظل قاصرا عن مناقشة الاستراتيجيات، أو أشكال النضال اللازمة للوصول إلى الهدف المنشود، سواء بعملية التحرير أو بعملية التسوية، إذا استثنينا الشعارات.
 
هكذا، مثلا، يمكننا ملاحظة أن ثمة فجوة واسعة بين شعارات الفلسطينيين وإمكانياتهم، كما بين رغباتهم وقدراتهم، كما ليس ثمة تناسب بين التضحيات والمعاناة التي لا زال يتكبدها شعب فلسطين، طوال أكثر من أربعة عقود من عمر حركته الوطنية، وبين الإنجازات التي تم تحقيقها، داخل الأراضي المحتلة أو في مناطق اللجوء.
 
ومشكلة هذه الحركة أنها بدلا من وعي الواقع المعقد والمعطيات المحيطة والبناء على الإمكانيات، والقياس على الإنجازات (الجدوى)، أسّست نفسها على الشعارات وشحذ العواطف وتقديس التضحيات، وعدم المساءلة ونبذ العقلية النقدية، وتغييب الطابع المؤسّسي والديمقراطي في إدارة بناها وعلاقاتها الداخلية.
 
وإذا وضعنا الكفاح المسلح، أو المقاومة المسلحة، أو حرب التحرير الشعبية، مثلا، على طاولة التشريح وكشف الحساب، فسنجد أن هذه التجربة لم تكتسب ملامح معينة، ولم تجر أية عملية تأصيل لها، وأنها خضعت غالبا لأغراض الدعاية الإعلامية، والمنافسات الفصائلية، وجرت المبالغة بها وبتأثيراتها على إسرائيل.
 
أيضا، فإن هذه التجربة التي بادرت «فتح» لإطلاقها (عام 1965)، لم تعط الثمار المرجوّة منها (الكلفة أكثر من المردود معنويا وبشريا وماديا)، ليس بسبب موازين القوى المختلة لصالح إسرائيل، فقط، وإنما لأن ممارسة المقاومة، في ظروف الفلسطينيين الاستثنائية والمعقدة، كانت محدودة ومقيدة وموظّفة؛ ولأن هذه التجربة انعكست سلبا عليهم، بتضخّم جسمهم العسكري، على حساب جسمهم السياسي، وباستخدامهم هذا الجسم خارج أغراضه الشرعية، في مشاريع الهيمنة المجتمعية والمنازعات الفصائلية، وفي التوظيفات الإقليمية والاحتكاكات السلبية ببعض السلطات العربية، وبحكم الطريقة المزاجية والفوضوية في إدارة العمل الفلسطيني، وأيضا بحكم تخلف إدارة هذا الشكل في ظل البني الهلامية الفصائلية.
 
وعلى أهمية دراسة المعطيات والتمعن في التحليلات، فإن الإحصاءات هي الأكثر مباشرة وشفافية، في تقديم كشف حساب التجربة المسلحة وتبيّن جدواها. ومن هذه الإحصائيات يمكن ملاحظة غياب المقاومة المسلحة، بشكل تام تقريبا، في الأعوام القليلة الماضية، سواء كانت على شكل عمليات تفجيرية (استشهادية) أو على شكل قصف صاروخي أو حتى على شكل عمليات مقاومة ضد المستوطنين والجنود الإسرائيليين في الضفة والقطاع.
 
اللافت للانتباه أن هذا الغياب للمقاومة لم يحظ بأي تفسير، أو تنظير، من قبل قيادات المقاومة المعنية، تماما مثلما هي لم تفسر، ولم توضح إستراتيجيتها، بشأن صعود المقاومة، أو بشأن طبع الانتفاضة بطابع المقاومة المسلحة (2000ـ 2005). الأنكى من كل ذلك أن بعض الفصائل ما زالت تتحدث عن التمسك بالكفاح المسلح، في حين أنها لا تمارس، أو ليس لديها إمكانيات ممارسة ذلك من الناحية العملية، ومنذ عقود من الزمن.
 
وإلى جانب غياب الاستراتيجية السياسية والعسكرية، لأشكال المقاومة (وضمنها الكفاح المسلح) يمكن، أيضا، ملاحظة أن القيادات المعنية لا تقدم كشف حساب لشعبها عن الكلفة والمردود، أو عن التضحيات والانجازات، حيث يتم تغييب الإحصائيات، وطمسها، بالشعارات العاطفية، وبالحديث عن قدسية المقاومة، والتضحية.
 
لنأخذ إحصائيات المقاومة المسلحة منذ العام 2000 (بدء الانتفاضة الثانية) وحتى أواخر العام 2007 (قبيل الحرب على قطاع غزة)، ففي العام 2000 قتل 43 من الإسرائيليين، وفي العام 2001 قتل 201 منهم، وفي العام 2002 قتل 426 منهم (في إطار تصاعدي)، وفي العام 2003 قتل 199 من الإسرائيليين، وفي عام 2004 قتل 109 منهم، وفي عام 2005 قتل 50 إسرائيليا وفي عام 2006 قتل 24 إسرائيليا، وفي العام 2007 قتل 11 من الإسرائيليين (في مسار تنازلي).
 
وتفيد إحصائيات، تلك الفترة، بمصرع نحو 5500 من الفلسطينيين، وجرح 70 ألفا (كثيرون منهم مع إعاقة دائمة)، كما دخل المعتقلات نحو عشرين ألفا، هذا إضافة إلى الخسائر الاقتصادية التي تقدر بنحو 12 مليارا من الدولارات، والخسائر الاجتماعية التي من ضمنها شيوع الفقر والبطالة، وتدني المستوى الصحي، وانقطاع العملية التعليمية؛ من دون أن نتحدث عن الخسائر السياسية، على كافة الأصعدة، داخليا وخارجيا.
 
أما إذا عدنا لتجربة الكفاح المسلح قبل الانتفاضة، فإن الواقع أشد صدماً، وبحسب آفي ديختر، رئيس جهاز الأمن العام الإسرائيلي (سابقا)، فقد «أصيب جراء الإرهاب (أي العمليات الفدائية) من الإسرائيليين (قتلى وجرحى) في السنوات الأربع الأخيرة 11356 شخصا، مقابل 4319 شخصا أصيبوا بين 1947 و2000». ( هآرتس 9/8/2004) ويستنتج من ذلك أن المواجهات التي تمت في الأعوام الأربعة الأولى من الانتفاضة كلفت إسرائيل أكثر، (بمقدار ثلاثة أضعاف)، من كلفة تجربة الكفاح المسلح الفلسطيني، طوال الأعوام 1965 ـ2000، مع كل التوظيف العسكري، والضجيج الإعلامي، والتحشيد العاطفي، الذي ساد في تلك الفترة! مع علمنا أن ثمة أطناناً من البيانات، الصادرة عن مختلف المنظمات، حول العمليات التي تكبد فيها العدو الإسرائيلي خسائر فادحة بالأرواح والمعدات!
 
الأنكى أن عشرات الألوف من الفلسطينيين قضوا في سبيل هذا الكفاح، ضد إسرائيل، وفي أحداث الأردن (1970)، وإبان الحرب الأهلية اللبنانية، وثمة أكثر من مئة ألف جريح ومصاب، ونحو 500 ألف فلسطيني أدخلوا إلى السجون الإسرائيلية، لفترات متفاوتة، منذ احتلال الضفة والقطاع في العام 1967؛ ناهيك عن انعكاس هذه التجربة سلبا على الفلسطينيين في الأردن ولبنان.
 
طبعا الحديث هنا لا يتعلق بشرعية المقاومة المسلحة ضد الاحتلال، بقدر ما يتعلق بجدوى الأشكال النضالية المتبعة بحسب الزمان والمكان والهدف، وإمكانية استثمار العوائد المتأتية منها إيجابا، والقدرة على التحكم بها وإدارتها بأنجع ما يمكن. كما أن المسألة هنا تتعلق بعدم حصر المقاومة بالكفاح المسلح، بتأكيد المقاومة بكل الأشكال الشعبية الممكنة، وضمنها بناء الذات.
 
وفي الواقع فإن كفاح الفلسطينيين كان يمكن له، ربما، أن يكون أكثر جدوى، لو أدار الفلسطينيون كفاحهم بنوع من العقلانية والواقعية، ولربما كانت خسائرهم أقل بكثير في هذه الحال.
 
على ذلك فإن القيادات الفلسطينية معنية بالتعامل بمسؤولية عالية مع هذه الأمور، بوعي واقعها، ومصارحة شعبها بالحقائق وتوضيح إستراتيجيتها، في السياسة وفي أشكال المقاومة، وإدارة كفاحها بأنجع وأقوم ما يمكن، لوضعه على سكة تقلل خسائره وتحفظ إنجازاته وتراكم نجاحاته في صراع يفترض أنه طويل وممتد، في الزمان والأشكال. وبديهي أن ذلك يحتاج من هذه القيادات إلى تشجيع البحث العلمي، وتعزيز التفكير السياسي النقدي، والانفتاح على الرأي الأخر، بدلا من التعامل مع كل ذلك بروح عدائية واتهامية.

التعليقات