17/08/2011 - 11:05

إسرائيل إذ يحكمها سليل جابوتنسكي وريغان../ علي جرادات

ثمة أزمة اقتصادية اجتماعية في إسرائيل، أظهرتها للسطح موجة احتجاجات شعبية، آخذة في التوسع، ديموغرافياً وجغرافياً، تحت مطلب "العدالة الاجتماعية"، كشعار ناظم. ويمتنع المنظمون، والمشاركون في هذه الاحتجاجات، عن ربط هذه الأزمة بسياسة الصرف الخيالي على الأمن والحروب والاستيطان والتهويد، كسياسة شاركوا في تنفيذها، ولا يزالون

إسرائيل إذ يحكمها سليل جابوتنسكي وريغان../  علي جرادات
ثمة أزمة اقتصادية اجتماعية في إسرائيل، أظهرتها للسطح موجة احتجاجات شعبية، آخذة في التوسع، ديموغرافياً وجغرافياً، تحت مطلب "العدالة الاجتماعية"، كشعار ناظم. ويمتنع المنظمون، والمشاركون في هذه الاحتجاجات، عن ربط هذه الأزمة بسياسة الصرف الخيالي على الأمن والحروب والاستيطان والتهويد، كسياسة شاركوا في تنفيذها، ولا يزالون. أما قادة إسرائيل، فيهربون، كأسلافهم، من هذا الربط، كما يهرب خائف من طاعون، خلقه بيديه، وما زال ينشره كوباء معدٍ. هذا رغم أن الأزمة الاقتصادية الاجتماعية الإسرائيلية، وما أفضت إليه من احتجاجات، تشكل حدثاً نوعياً لصيقاً بسياسة التطرف الصهيوني، أي بسياسة رفض التسوية السياسية واحتراف الحروب، وانتهاج وتكثيف عمليات الاستيطان والتهويد، وانتهاج وزيادة ترسيم العنصرية ومأسستها في قوانين، ما انفكت "الكنيست" تثابر على تشريعها.
 
   وأكثر من ذلك، فإنه يصعب سبر غور الأزمة الاقتصادية الاجتماعية الراهنة في إسرائيل، من دون الإحاطة بالتحولات التي طرأت على البنية السياسية الاجتماعية الصهيونية، التي قادها، قبل، وبعد، تأسيس إسرائيل عام 1948، جناحان:
 
الأول: جناح صهيوني براغماتي، بزعامة بن غوريون، استعمل تراث الحركة الاشتراكية العالمية، ووظفها، في بناء كيان رأسمالي استعماري استيطاني، بطابع إجلائي إحلالي، يتمتع المستوطنون فيه بحدٍ من العدالة الاجتماعية، قادر، (مع صندوق الاقتراع والتداول السلمي للسلطة)، على طحن التناقضات الداخلية، وصهرها في بوتقة التناقض الخارجي.
 
الثاني: جناح صهيوني متشدد، (الصهيونية التصحيحية)، بزعامة جابوتنسكي، المُتأثر، منذ أوائل القرن المنصرم، بالأفكار الرأسمالية، وبأفكار الحزب الليبرالي البولندي، المعادي للحركة الاشتراكية وفكرها، أيام كانت بولندا جزءاً من الإمبراطورية الروسية.
 
   في إطار الصراع بين هذين الجناحين، تشكلت، وتحولت، البنية السياسية الاجتماعية الصهيونية، وبالتالي الإسرائيلية، وإن ساد جناح بن غوريون، المعبَّر عنه في حزبي: مباي، (حزب العمل لاحقاً)، ومبام، (حركة ميرتس لاحقاً)، من خلال تمكُّنه من استمالة غالبية البنية الاجتماعية، عبر بناء نظام اقتصادي تعاوني أقرب للنمط الاشتراكي، (الكيبوتسات)، وكسب غالبية العمال الإسرائيليين، من خلال السيطرة على نقابتهم العامة، "الهستدروت". فيما لم يستطع امتداد جناح جابوتنسكي، المُعبَّر عنه في تكتل الليكود،( تكتل حزبي: حيروت بزعامة بيغن، والأحرار المستقلين بزعامة يتسحاق مودعي)، من كسب الغالبية الشعبية للمبنى الاجتماعي الإسرائيلي، رغم منافسته عليها، من خلال تأسيس "الموشافات"، كشكل تعاوني تقليدي، رأسمالي في الجوهر. 
                            
   ظل جناح بن غوريون الصهيوني البراغماتي مسيطراً لمدة ثلاثين عاماً، (نصف عمر دولة إسرائيل تقريباً)، حتى تمكَّن تكتل الليكود، بقيادة بيغن، (امتداد جناح جابوتنسكي)، عام 1977، من الفوز بالسلطة في إسرائيل لأول مرة. وقد شكل هذا الفوز، الذي سماه الإسرائيليون انقلاباً، بداية لمرحلة جديدة من التطرف السياسي اليميني، بالمعنيين الخارجي والداخلي. وقد زاد هذا التطرف اندفاعاً بسبب ترافقه مع سيادة سياسة رأسمالية اقتصادية ليبرالية متوحشة، ومنفلتة العقال، في كل من "أمريكا الريغانية"، و"بريطانيا التاتشرية"، ناهيك عن تأثر باقي الرأسماليات الغربية بهما.
 
   وحتى في فترة التوازن بين تكتل الليكود وحزب العمل، (1984-1992)، واضطرارهما لتشكيل حكومات الرأسين المتناوبين، ظلت سياسة فلتان يد السوق الحر من كل عقال، ناهيك عن سياسة الخصخصة لكل شيء، هي السائدة، بل، وتبناها رابين، وإن بضوابط، لم يحافظ عليها باراك، (يسميه الإسرائيليون "ليكود ب"). وقد صاغ نتنياهو، (وزيراً للمالية في عهد شارون، ورئيساً للوزراء ووزيراً أعلى للإستراتيجية الاقتصادية حالياً)، القفزة الإسرائيلية الأكبر في السياسة الاقتصادية الرأسمالية المتوحشة، (تسمى الخنزيرية أيضا). وبذلك تمت إعادة صوغ جديدة لأجنحة البنية السياسية الاجتماعية الصهيونية، وبالتالي الإسرائيلية، على النحو التالي:
 
   جناح أول، بقيادة نتنياهو، ضم "يمين الليكود"، (كممثل لمصالح القوى الصناعية العسكرية والمدنية)، مع يمين أكثر منه تطرفاً، بل وفاشية، "إسرائيل بيتنا" و"الاتحاد الوطني"، كممثلين لمصالح التجمعات الاستيطانية، التي أصبح منها ثلث الرتب المتوسطة في الجيش الإسرائيلي.
 
   وجناح ثانٍ، بقيادة شارون، فأولمرت، فليفني، ضم كتلة من الليكود، ( تحت مسمى كاديما)، مع يمين حزب العمل. وهو جناح لا يقل عن الجناح الأول يمينية وتطرفاً، خارجياً وداخلياً، بل، ويتقاسم مع الجناح الأول تمثيل، والتعبير عن، مصالح ذات القوى الاجتماعية.
 
   وجناح ثالث فاقد للوزن والتأثير، ضم "يسار" حزب العمل الخائب مع قوى يسار أكثر منه خيبة وتلاشياً.
 
   وجناح رابع، تمثله قوى صهيونية دينية، أبرزها اليوم حركة "شاس"، التي تحظى بدعم قطاعات واسعة من اليهود الشرقيين، فيما يسميها الإسرائيليون حركة "شيكل وزير"، تعبيراً عن انتهازيتها ونفعيتها، وانخراطها في الائتلافات الحكومية اليمينية، تبعاً لما يقدم لها من رشاوى، تصرفها على ما تديره كحركة من مدارس لتعليم الناشئة على الأسس التوراتية، (الييشفاه).
 
 بهذه الخارطة الصهيونية الجديدة، في السياسية الخارجية والاقتصادية الاجتماعية الداخلية، انتقلت قوى الرأسمالية الاستعمارية الاستيطانية، ذات الطابع الإجلائي الإحلالي، في إسرائيل، من مرحلة التأسيس، إلى مرحلة السيادة والانتشار، وذلك عبر تغيير بنية الاقتصاد وتحريره من أية قيود، إنتاجاً وتشغيلاً وتبادلاً، بهدف المشاركة في النظام الرأسمالي المعولم، كشريك غير "طرفي"، يسعى للتخلص من الاعتماد على الدعم الخارجي، والأمريكي منه بخاصة. وفي السياق يلفت الانتباه تركيز الاقتصاد الإسرائيلي على الاستثمار في التكنولوجيا المتقدمة، وعلى تصدير المعرفة، (براءات الاختراع)، التي تنتجها المعاهد التكنولوجية، ما خلق طبقة جديدة من التكنوقراط، يحظى أفرادها برواتب فلكية.
 
   لقد انعكست لبرلة الاقتصاد الإسرائيلي وتوحشه، فضلاً عن صرف الموازنات الخيالية على الأمن الحروب والاستيطان والتهويد، علاوة على انتشار الفساد وسيادة الرشاوى الحزبية والاثنية في صرف الموازنة العامة، وبالاً على "قاع" مجتمع الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي. وهو "القاع" الذي فقد الأمان الاجتماعي، في الغذاء والصحة والتعليم والسكن، ما قاد إلى تفجُّرِ الاحتجاجات الاجتماعية الشعبية الأخيرة المتصاعدة، التي لم تفعل سوى تظهير أزمة اقتصادية اجتماعية بنيوية، تعود إلى الطبيعة الاستعمارية الاستيطانية للبنية السياسية الاجتماعية الصهيونية، وخاصة بعد تحولاتها اليمينية المتطرفة، التي تدرجت حتى بلغت أكثر أشكالها وحشية، بقيادة حكومة نتنياهو ليبرمان، التي أفرزها، وتماهى معها، مجتمع الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، الذي يدفع اليوم ثمن ما اقترفت يداه، بل، وما زال يمتنع عن ربط الأزمة الاجتماعية، التي أفرزت احتجاجاته، بسياسة الصرف على الأمن والحروب والاستيطان والتهويد.
 
قصارى القول: إن قاع، بل "حطب"، مجتمع الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، يدفع اليوم ثمن تماهيه مع التطرف الصهيوني عموماً، ومع امتدادات تطرف جابوتنسكي وريغان وتاتشر، ويمينيتهم المتوحشة، في السياسة والاجتماع والاقتصاد، خصوصاً.              

التعليقات