21/09/2011 - 09:27

الأزمة الراهنة للنظام الرأسمالي العالمي../ علي جرادات

نشهد مع تفاقم الأزمة المالية العالمية، وصيرورتها نحو أزمة اقتصادية، بعد انفجار فقاعة رأس المال المالي، وما رافق ذلك من تراجع في نظام العولمة السياسي أحادي القطبية، وتراجع المنظومات الفكرية الليبرالية الجديدة، بداية لمرحلة جديدة في نضال الطبقات والشعوب الفقيرة في مواجهة عولمة الرأسمالية المتوحشة. صحيح أن تراجع أحادية القطبية الأمريكية نحو عالم متعدد الأقطاب، لا يعني نشوء نقيض مباشر للنظام الرأسمالي العالمي على المستوى الدولاني، بل يعني إعادة تنظيم وتوزيع مستويات القوة بين دول رأسمالية، لكنه صحيح أيضاً أن هنالك نقيضاً حقيقياً يتنامى، ويتمثل في الحراك الشعبي المعادي للعولمة الرأسمالية، سواء كان ذلك في بلدان "المركز" أو في بلدان "المحيط"

الأزمة الراهنة للنظام الرأسمالي العالمي../ علي جرادات
نشهد مع تفاقم الأزمة المالية العالمية، وصيرورتها نحو أزمة اقتصادية، بعد انفجار فقاعة رأس المال المالي، وما رافق ذلك من تراجع في نظام العولمة السياسي أحادي القطبية، وتراجع المنظومات الفكرية الليبرالية الجديدة، بداية لمرحلة جديدة في نضال الطبقات والشعوب الفقيرة في مواجهة عولمة الرأسمالية المتوحشة. صحيح أن تراجع أحادية القطبية الأمريكية نحو عالم متعدد الأقطاب، لا يعني نشوء نقيض مباشر للنظام الرأسمالي العالمي على المستوى الدولاني، بل يعني إعادة تنظيم وتوزيع مستويات القوة بين دول رأسمالية، لكنه صحيح أيضاً أن هنالك نقيضاً حقيقياً يتنامى، ويتمثل في الحراك الشعبي المعادي للعولمة الرأسمالية، سواء كان ذلك في بلدان "المركز" أو في بلدان "المحيط".
 
 لقد انعكست الأزمة، وبشكل متفاوت، على بلدان "المركز"، (ووصلت ذيولها إلى بلدان "المحيط")، سواء بإغلاق العديد من البنوك والشركات والمصانع، وتسريح عامليها لينضموا إلى جيش العاطلين عن العمل، أو بتراجع الاستثمار في ظل "توَحُّلِ" الولايات المتحدة وحلفائها في مستنقع الحروب التي أشعلتها في أفغانستان والعراق، عدا انخراطها المباشر وغير المباشر في الفتن والصراعات الداخلية في حدود روسيا الاتحادية وتايلند أو في بلدان كاليمن والصومال والسودان ولبنان وفلسطين وغيرها من بلدان "المحيط". 
 
 في ضوء ذلك برزت الحاجة إلى حراك الطبقات والشعوب الفقيرة كضرورة موضوعية وتاريخية، وتجلى ذلك مؤخراً في الحراك الشعبي العربي الجاري، بعد النجاحات التي حققتها القوى الشعبية في غالبية بلدان أمريكا اللاتينية، عدا تنامي الحركات المناهضة للعولمة في دول "المركز". لقد ارتبط ذلك كله بتعمق مظاهر الصراع الاجتماعي، إن كان في دول "المركز" أو في دول "المحيط".
 
 إن غرق الرأسمالية المعولمة في أزمتها المالية السائرة نحو أزمة اقتصادية سيؤدي إلى انكفائها لمعالجة أزمتها الداخلية. وفي ذلك فرصة تاريخية لبعض الدول التي قطعت شوطاً في التنمية والديمقراطية أن تفلت من إسار التبعية والنهب، كما هي فرصة تاريخية لاستنهاض القوى المعبرة عن توق الشعوب للتحرر الوطني والاجتماعي وزيادة تأثيرها في المجتمع.
 
 فبهذا يصبح الحكم على جدارة قوى التحرر الوطني والاجتماعي لا بما أصاب تجاربها المحققة من انهيارات، بل بما تعانيه الرأسمالية العالمية اليوم من أزمة آخذة في التفاقم، حيث انكشف عن تناقضاتها الغطاء الخارجي، المتمثل أساساً بانهيار التجربة السوفييتية وملحقاتها، لتظهر حالة الغليان الداخلي والأزمات التي تعانيها الرأسمالية المعولمة، التي لم يعجز نظامها المتوحش عن تقديم الحلول لمشاكل الإنسانية فقط، بل، ولجأ إلى شن الحروب العدوانية، التي كان لمنطقة الشرق الأوسط عموماً، وللمنطقة العربية خصوصاً، النصيب الأكبر منها.
 
 لكن التناقضات هنا لم تبقَ راكدة، أو ساكنة، بل إن حركتها عاشت تراكماً غير مرئي، لم يكن بالمقدور التنبؤ بأشكال انفجاره، غير أنه كان بالمستطاع القبض على اتجاهه العام، المتمثل في تعمق تناقضات الرأسمال المعولم، الناجمة عن إخضاع الثروة العالمية، فضلاً عن ثمار التطور العلمي والتكنولوجي، لمصالحه الفالتة من عقالها، ما أفضى إلى اتساع الفروق الاجتماعية، سواء داخل مجتمعات "المركز"، أو داخل مجتمعات "المحيط"، أو بين بلدان "المركز" وبلدان "المحيط". 
 
تشير الإحصاءات العالمية إلى أن هنالك مليار جائع في العالم، أي بنسبة تقدَّرُ بـ17% من البشرية. وأن هنالك 8 دول مركزية تمتلك 80% من الثروة العالمية، فيما بقية دول العالم تمتلك 20% فقط. وأن هنالك قرابة 30 شركة احتكارية معولمة تملك 70% من السوق العالمية، فيما تعزز الفقر، وفي بلدان "المحيط" بخاصة، ليصل إلى 32% من البشرية. وأن هنالك حوالي مليار إنسان دون مياه صالحة للشرب. هذا ناهيك عن أن حروب الرأسمال المعولم قد حصدت أرواح أكثر من 3 ملايين إنسان، وخلفت مئات الآلاف من الجرحى ومشوهي الحروب، ذلك منذ انهيار التجربة السوفييتية واندلاع الصراعات الإثنية في البلقان، وغزو العراق وأفغانستان، علاوة على الحجم الهائل من الدمار الذي أصاب هذه البلدان، والذي تقدر كلفته بنحو 5 تريليون دولار. وإذا ما أضيف ذلك إلى نحو 2 تريليون دولار، هي المديونية التي ترزح تحتها بلدان "المحيط"، يظهر إلى أي مدى كانت الرأسمالية المعولمة متوحشة ومستعدة لتعظيم أرباحها بكل الوسائل، بما في ذلك شن الحروب العدوانية وإشعال الفتن الداخلية وارتكاب جرائم الإبادة الجماعية. 
 
قامت العولمة الرأسمالية على أساس فتح الأسواق وتحرير التجارة، وتسييد كل من البنك وصندوق النقد الدوليين ومنظمة التجارة العالمية على الفكر الاقتصادي العالمي، حيث تم استهداف بلدان "المحيط" من خلال دفعها إلى تقليص تدخل الدولة وخصخصة القطاعات الإنتاجية والخدمية معاً، وتقليص شبكة الأمان الاجتماعي، وبناء المناطق الحرة غير الخاضعة للجمارك والموجهة للتصدير تحت شعار تشجيع الاستثمار الأجنبي، ما أدى إلى رهْنِ أو بيع الأصول الوطنية، وإلى هشاشة الاقتصاد وسيادة نزعة الاستهلاك وتراكم ديون بلدان "المحيط، حيث بلغ حجم الديون الخارجية على الدول العربية، (مثلاً)، 800 مليار دولار. بمعنى آخر، فإن عملية نهب جديدة قد تمت لبلدان "المحيط ، بأيدٍ ناعمة أولاً، وبحروبٍ على الدول "العاصية" لاحقاً. فالعولمة لم تقلص الفارق في التطور بين دول "المركز ودول "المحيط"، بل وسعته، وعمقت "تخلف" الأخيرة وتبعيتها، وحولتها إلى مجرد أسواق استهلاكية ومناجم يستنزفها المركز الرأسمالي العالمي. وترافق ذلك مع غياب الديمقراطية وتسيُّدِ أنظمة ديكتاتورية جمعت بين السلطة ورأس المال بشكل سافر، ما أدى إلى تعميق تشوه البنى في بلدان "المحيط" وزيادة الفقر والمديونية. 
 
 وفي ظل الأزمة المالية العالمية، جرى سحب نحو 800 مليار دولار من الأسواق الناشئة في بلدان "المحيط"، ونقلت كثير من الشركات الغربية استثماراتها من البلدان الفقيرة، وقلَّت التدفقات المالية إلى هذه الدول بمقدار 200 مليار دولار، وتشكَّل عجز اقتصادي لدى 80 دولة من دول ما يسمى بـ"العالم الثالث"، نتج عن تقلص صادراتها، حيث اعتمدت الاستثمارات الأجنبية إستراتيجية الإنتاج من أجل التصدير بالاعتماد على الأيدي العاملة الرخيصة في هذه البلدان. ففي البلدان العربية، (مثلاً)، حيث يوجد حوالي 20 مليون عاطل عن العمل، خسرت الدول العربية نتيجة الأزمة 200 مليار دولار، كما تأثر تريليون دولار عربي في الأسواق الغربية بانهيار البنوك والبورصات فيها، أما الخسائر المتوقعة للاقتصاد العربي فتقدَّر بحوالي 2،5 تريليون دولار.
 
 لقد فتح انهيار التجربة السوفييتية، مترافقاً مع انكشاف عجز الرأسمالية المعولمة عن حل مشاكل البشرية، فرصاً جديدة لتجارب تحررية وطنية واجتماعية مختلفة، مستفيدة من خلل التجارب السابقة، وفي ظروف جديدة ومختلفة، حيث تحوَّل الصراع العالمي من كونه صراعاً بين معسكرين دوليين إلى صراع بين كل الطبقات والشعوب المضطهَدة في العالم من جهة وبين الطبقات المسيطرة على الثروة العالمية من جهة أخرى، ليصبح الصراع مكشوفاً ويتسم بوضوح اجتماعي أكثر، فيما يحاول الرأسمال المعولم جاهداً تغطية هذا الصراع بافتعال أزمات من قبيل خلقِ وتغذية وتضخيم الصراعات الدينية والطائفية والمذهبية والإثنية والجهوية في "المحيط"، وتسعير الحرب على الأقليات المهاجرة في "المركز"، بل، ومن المرجح أن يلجأ إلى شن مزيد من الحروب، وفي منطقة الشرق الأوسط تحديداً، وهذا موضوع آخر يحتاج إلى معالجة مستقلة.

التعليقات