01/10/2011 - 14:03

الهبة والمعنى../ د. جمال زحالقة

كانت الهبة تعبيراً واضحاً عن تنامي الانتماء الوطني وعن ترسيخ الهوية القومية لدى جيل كامل من الشباب حسم أمره وحسم أمر هويته وانتماءه ولم يقع في مصيدة "نصف هوية ونصف انتماء"

الهبة والمعنى../ د. جمال زحالقة
لعل أكثر ما ميز هبة القدس والأقصى، التي تصادف ذكراها هذا الأسبوع، هو الاستعداد للتضحية والمشاركة الجماهيرية الواسعة في هبة أطلقت صرخة مدوية ضد الظلم والاضطهاد وسلب الحقوق وضد الاعتداء على الناس وأملاكهم ومقدساتهم. من هنا فإننا نستلهم روح هذه الهبة المجيدة في كل مواجهة ضد محاولات سلب حقوقنا، وفي كل تحرك دفاعاً عن كرامتنا وحقنا في الحياة الحرة الكريمة في وطننا.
 
لأن الأحداث التاريخية صماء، ولأن لا معنى لها بحد ذاتها، فإن البشر الأحياء وحدهم يمنحونها المعنى، ويدور بينهم صراع حول المعنى. هذا الذي حدث بعد هبة أكتوبر المجيدة، فقد حاول البعض، مباشرة أو بين السطور، تصويرها وكأنها دليل تهور للقيادة أو لشباب عرب طائشين، ويجب علاجهم إما بتهذيبهم أو بمعاقبتهم. البعض الآخر صورها وكأنه ليست سوى احتجاج على ما يسمى بالفجوات في الميزانيات، لذا ذهبوا إلى الحكومة وقالوا أعطونا ميزانيات وكل شيء سيكون على ما يرام.
 
هناك من ذهب إلى أبعد من ذلك، وعبر عن قلقه من أن الهبة حملت معها ما أسماه "التطرف القوموي" او "التقوقع القومي"، وقام هو بعرض نفسه هو للرأي العام الإسرائيلي على أنه "عربي تعايشي خال من التقوقع والتطرف"، عارضاً علاجه الذي يبدأ بالعمل على فرض العزلة والحصار على من أسماهم بـ"المتطرفين" و "المتقوقعين"، ويمر بالبحث عن دواء للتطرف والتقوقع، وصولا إلى خطوات على الأرض للتخفيف من حدة الحالة عبر لقاءات تعايش وحوارات تليين مواقف وطقوس جلد للذات واتهام الضحية.
 
لأن المشاركين في طقوس الرياء والتملق للمضطهد ولسلطات الاضطهاد ليسوا بالضرورة أغبياء وساذجين، نجد بعضهم يسوق نفسه ويسوق بضاعته بصراخ مدو وبصوت عال الاوكتاف. هنا يجب أن ننتبه أن المقياس ليس ارتفاع الصوت، فمن الممكن تقديم كل التنازلات من خلال الصراخ والضجيج، ومن الممكن الإصرار على الحقوق والثوابت والكرامة بصوت متزن وهادئ.
 
في الصراع على المعنى، كان للحركة الوطنية صوت واثق بالمعنى الذي يحمله، واضح بتأثيره حازم بموقفه، رغم كل محاولات الإسكات، رغم الملاحقة ورغم التآمر وحملات التشكيك والتلاعب بالإعلام وتسويق السم مخلوطاً بالدسم المغري. لقد أكدت الحركة الوطنية وفي مركزها التجمع الوطني الديمقراطي أن هبة القدس والأقصى هي حدث تاريخي مفصلي في حياة الفلسطينيين في الداخل، وأنه كان تعبيراً مدوياً عن الروح الوطنية وعن الموقف الوطني، حيث كان سبب الهبة المباشر هو المواجهات الدامية مع الاحتلال في الأقصى والقدس وأنحاء الضفة وغزة. لم يكن سبب الهبة هو التمييز والتوزيع غير العادل للموارد والميزانيات، رغم أهمية هذه القضايا ورغم انها تستحق بحد ذاتها هبة جديدة هذه الأيام.
 
كانت الهبة تعبيراً واضحاً عن تنامي الانتماء الوطني وعن ترسيخ الهوية القومية لدى جيل كامل من الشباب حسم أمره وحسم أمر هويته وانتماءه ولم يقع في مصيدة "نصف هوية ونصف انتماء". وقد جاء تحرك هذا الشباب دليلاً على أن ما تراكم في وعيه وفي ضميره ووجدانه قد أهله للتصدي لمحاولات الدوس على كرامته وعلى حقوقه وحقوق شعبه.
 
ما أحوجنا اليوم إلى استلهام روح هبة أكتوبر المجيدة في المعارك التي نخوضها والتي نحن بصددها. ما أحوجنا إلى التحرك الجماهيري واسع النطاق، الذي شمل كل قرية وكل مدينة، وما أحوجنا إلى روح الالتزام بالعمل الجماعي، وما أحوجنا إلى ترسيخ كسر حاجز الخوف، وما أحوجنا إلى المزيد من روح العطاء والاستعداد للتضحية وما أحوجنا إلى الروح الوطنية الحماسية الخالية من شوائب العجز الذي يلبس قناع العقلانية ويدعي المسؤولية.
 
إن قمة المسؤولية الوطنية في أيامنا هو استلهام روح هبة أكتوبر والتحلي بأخلاقياتها والتحرك بوحيها ووفق بوصلتها السياسية الواضحة.

التعليقات